يكبرُ بسرعة حين يتحدّث عن فلسطين. يصبحُ راشداً ثم مقاتلاً يحملُ "بارودة" في يده. لا يبدو حائراً في مستقبله. لم يتجاوز التاسعة من عمره بعد. مع ذلك، يعرفُ أنه ليس سعيداً هنا (مخيم شاتيلا للاجئين الفلسطينيين في بيروت). أكثر من ذلك، يُدرك أنه لن يكون سعيداً إلا في فلسطين. لا تعنيه فتاة جميلة أو سيارة يسابق أقرانه من خلالها. فقد كبر كثيراً.
كأنّ أطفال مخيم شاتيلا يعرفون جميع أحياء فلسطين، البلد الذي يرسمون أشجار زيتونه على أوراقهم البيضاء. هذا ما قد يشعر به من يتحدث إليهم. لكنهم بالكاد يعرفون المنطقة التي يتحدرون منها. أو ربما يعرفون ما هو أكثر من ذلك. ففي قلوبهم حب كبير نشأوا عليه، حتى إنهم ربطوا حياتهم بـ "حق العودة". بالنسبة إليهم، فإن وجودهم هنا، في مخيم تملأه النفايات والروائح الكريهة، مؤقت. يريدون أن يستيقظوا على رائحة أشجار الزيتون المزروعة في الباحة الخلفية لمنازلهم.
هل تحبّون الزيتون؟ يجيبُ الأطفال العشرة، الذين يدرسون في مدرسة رام الله الابتدائية التابعة لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) في المخيم، ويأتون إلى جمعية "أحلام لاجئ" بعد الظهر للدراسة، بـ "نعم". كأّنّهم تذوقوا زيتون فلسطين جميعاً. يردّد هشام أن والده أخذه إلى فلسطين. رآها عن قرب. فعلياً، لم يدس أرضَها بعد. فقد ذهب إلى منطقة مارون الراس (جنوب لبنان) الحدودية مع فلسطين. رأى الأشجار الجميلة التي لطالما حدثه عنها.
حينَ يكبر، لا يريد هشام غير العودة إلى فلسطين. لماذا؟ "عشان هي بلدنا. ولا أحب هنا". يعرف عنها الكثير. يقول إنها "كبيرة، فيها مناطقنا وأشجار الزيتون. القدس أيضاً كبيرة وحلوة. هي أحلى بلد. أهلي بيحكولي". يتذكر أيضاً أن فيها "جامع أقصى كبيراً، وعشباً أخضر". في لبنان أيضاً أشجار. لكن "فلسطين غير". يقولها هشام وباقي الأطفال. جميعهم يعرفون النكبة. يذكرون العام 1948، يضيفون إلى التاريخ عبارة "يوم الهجرة من فلسطين". هذا التاريخ حيٌّ في قلوبهم. كأنه حدث بالأمس، فيما يحلمون بالعودة إليها غداً.
هشام يريدُ تحرير فلسطين. المسافة بينه وبينها مسألة وقت. يقول إنه سيقتل الإسرائيليين ويُحرّر البلاد ويعود إليها ولو بـ "الحجر". هكذا علّمه أهله. وقد أعدّ خطته لتحرير فلسطين. يضيف أنه حين يكبر، سيحمل البارودة، ويختبئ خلف الأشجار والبيوت، وبين الأعشاب، ويفاجئ الإسرائيليين من الخلف، حتى يقتلهم جميعاً ويعود الفلسطينيون إلى بلادهم. صديقه أحمد (تسع سنوات) ينوي طعنهم بالسكين. لكن لم يعد لديكم بيوت. يصمتون قليلاً، قبل أن يقولوا: "سنبنيها مجدداً".
أحمد من صفوري. لا يعرف أين تقع. قيل له إن بلدته جميلة، كما قيل لجميع الأطفال. لا يعرفون غير هذه الكلمات. "بلدنا جميل وكبير، فيه أشجار كثيرة وجبال وأنهر". لدى مرام (تسع سنوات) ما تضيفه. برأيها، "العلم في فلسطين أجمل". يُوافقها أحمد، فاتحاً ذراعيه ليؤكد على جمال عِلْم فلسطين. وحين تسأل عن السبب، يصمتان. هو جميل وحسب. لكن مرام عرفت الإجابة. لا تحب اللغة الإنجليزية التي تجدها صعبة. وتعرف أنه في المنهاج الفلسطيني، ستدرس العربية فقط.
الآن سيرسمون ما يخطر في بالهم حول ذكرى النكبة. يفكرون بخريطة فلسطين والقدس وأشجار الزيتون ومفتاح العودة، وبضعة قلوب تعبّر عن مدى حبهم لها.
أين مفتاح العودة؟ من يملكه؟ تعلو بعض الأيادي. هذا يعني أنه بإمكانكم العودة إلى فلسطين اليوم. يصمتون. يستدرك هشام أنه "يجب تحريرها أولاً"، فيما يلفت أحمد إلى أن "مفتاح العودة في حوزة الأونروا، فهو معلّق إلى جانب أحد مبانيها في المخيم". ثم يشرح هشام أن "هذا المفتاح يمكنه فقط فتح الأبواب الخشبية داخل البيوت، وليس الباب الخارجي". هذا لغزٌ آخر.
تسألُ زينة: "هل أنتِ لبنانية؟ نحن لا نحب لبنان". تحكي نيابة عن صفّها. تنهرُها زميلتها، فـ"لا داعي لأن تقول ذلك". لا يحب هؤلاء الأطفال فلسطين لأنها بلدهم فحسب. يحبونها لشدة ما يكرهون المخيّم الذي يختصر لبنان. يحبونها لأنهم بحاجة إلى ذكريات جميلة.
اقرأ أيضاً: في ذكرى النكبة.. "انتماء" تنطلق في صيدا