تنفرد قصور الحمراء بإدخال قصائد منقوشة في كل تخطيطاتها البنائية وإلى جانب تلك التشكيلات الكوفية المعمارية وسواها.
تجاوزت القصائد الجدارية السبعين قصيدة، حفظ منها حتى اليوم ما يزيد على ثلاثين قصيدة أو مقطع قصيدة منقوشة على الجدران. كل تلك القصائد، فيما عدا واحدة قصيرة، مخطوطة بالحرف الأندلسي الثلثي أو الليّن.
تمّ توزيع القصائد المنقوشة في القاعات والباحات وفقاً لترتيب هندسي تناظري حول محور مركزي. وفي أضخم قصور الحمراء، وهما "القصر الكبير" (قصر قمارش) و"الرياض السعيد" (قصر الأسود)، تكوّن محوران شعريان مطولان انطلاقاً من موضع عرش السلطان في رأس المحور شمالاً حتى طرفها المقابل جنوباً. والمحوران يشقان الحجرات وساحتي القصرين في حوار مع القبب والمياه، أي مياه طاقات الماء في مداخل الحجرات، والنوافير وبركة الرياحين ونافورة الأسود. فكلاهما، إذاً، محور شعري-مائي-فلكي.
■ ■ ■
وللعمل المعماري والفني العجيب، الغريب، قدرة خاصة على الخداع الحسي والأخذ بالألباب: "فإذا مبصري تأمل حسني / أكذب الحسُّ بالعيان خياله // ورأى البدرَ من شفوف ضيائي / حلّ طوعَ السعود مني هاله"، على حسب قول ابن زمرك في مدخل بهو عرش الغني بالله، أي في مرقب لِنْدراخا. وتَمُتُّ فكرة تكذيب الحواس هذه بصلة مع جمالية الانعكاس التي لقي تنظيراً مفصلاً في التراث البلاغي العربي، كما يحصل في "كتاب الشعر والسحر" لابن الخطيب، وزير لكل من السلطانين أبي حجاج يوسف وابنه محمد الغني بالله، وناظم لبعض القصائد المنقوشة في الحمراء.
بيد أننا نجد أدق تنظير لهذه الفكرة وعلاقتها بجمالية الجنان والحدائق في كتاب "منهاج البلغاء" للشاعر والأديب الأندلسي حازم القرطاجني، الذي زار غرناطة قبل مغادرته الأندلس إلى أفريقيا في بداية حكم بني نصر؛ وقد كتب القرطاجني يقول في خصوص المحاكاة الشعرية: "ينبغي أن يمثّل حسن المحاكاة في القول بأحسن ما يمكن أن يوجد من ضروب تصاوير الأشياء وتماثلها. فأقول إن من أحسن ما يرى من ذلك تصوّر أشعة الكواكب والشمع والمصابيح المرجة في صفحات المياه الصافية الساكنة التموّج من الخلجان والأودية والمذانب والأنهار.
وكذلك نمثّل أفانين شجر الدوح بما ضمّ من ثمر وزهر في صفحات الماء الصفو إذا كان الدوح مطلاً عليه، فإنّ اقتران طرتي الغدير الدوحية بما يبدو من مثالها في صفاء الماء من أعجب الأشياء وأبهجها منظرا" (منهاج البلغاء، تحقيق ابن الخوجة، بيروت، 1986، ص 127- 128).
ويجدر التنبيه هنا إلى فحوى هذه السطور لأن شعراء الحمراء وخطاطيها أضافوا إلى صفائح بِرَك المياه والشجيرات والنباتات المحيطة بها معاني وصوراً معمارية رائعة، مكمِّلين بعمائرهم الخطية المحاكية والمتوهمة العمائر المبنية في الحقيقة. خلقوا حواراً نادراً بالفعل بين الأشكال المعمارية المقروءة والمرئية وبين القصور المشيَّدة، ونجحوا في تبديد التخوم الفاصلة بين المباني المادية وتخيلها.
* مقتطف من دراسة طويلة للكاتب