قالت مصادر مصرية حكومية، إنّ مصر بدأت فعلياً مرحلة تنفيذ مشاريع معالجة وتحلية مياه البحر والصرف الصحي، في تأكيد جديد على التعامل مع ملف أزمة سدّ النهضة وفق تصوّر يضع سيناريو أكثر واقعية لفشل المفاوضات الثلاثية المستمرة منذ سنوات مع كل من إثيوبيا والسودان، من دون أن ينجح المفاوض المصري في تجاوز العراقيل التي يضعها الطرف الإثيوبي في طريق أي محاولة للقاهرة للموافقة على تصوراتها لحلّ الأزمة.
وبالتوازي مع تصريحات المصادر الحكومية، لـ"العربي الجديد"، كشفت مصادر إعلامية متعددة، أنّ توجيهات صدرت لجميع وسائل الإعلام المصرية، الحكومية منها، والتابعة مباشرة لأجهزة أمنية ومخابراتية، وحتى التي يتم توجيهها عن طريق هذه الأجهزة نفسها ولديها مساحة ضئيلة من الاستقلالية، بالتركيز خلال المرحلة المقبلة على جدوى حلول تحلية المياه، كبديل يكمل النقص الهائل في كميات مياه النيل، لمحاولة بثّ الطمأنينة في نفوس المصريين من جهة، وتوصيل رسائل للجهات الدولية المانحة للقروض والمساعدات، مفادها بجدية الدولة في تنفيذ مشاريع بديلة.
توجيهات صدرت لجميع وسائل الإعلام المصرية بالتركيز خلال المرحلة المقبلة على جدوى حلول تحلية المياه
وأفردت صحف حكومية مصرية مساحات كبيرة للحديث عن مشروعات لتحلية المياه قيد التنفيذ، وذلك بعد شهر من إعلان إثيوبيا انتهاء المرحلة الأولى من ملء سدّ النهضة، وتصريحات وزير خارجيتها، غيدو أندارجاشو، في 22 يوليو/تموز الماضي التي قال فيها "النيل أصبح لنا".
وقالت صحيفة "أخبار اليوم" المصرية في تقرير على صفحتين في عددها الصادر يوم السبت الماضي، إنه "في إطار المشروعات العملاقة التي تشهدها مصر حالياً، تتبنى القيادة السياسية استراتيجية قومية طموحة لمعالجة وتحلية مياه البحر، عبر إنشاء شبكة متكاملة من محطات التحلية في المحافظات الساحلية المطلة على البحرين الأبيض المتوسط والأحمر، إلى جانب التوسع في مشروعات الصرف الصحي في جميع محافظات الجمهورية. ومن المقرر أن تدخل 19 محطة تحلية جديدة الخدمة في غضون 18 شهراً لتضاف إلى المحطات القائمة بالفعل والتي يصل عددها إلى 65 محطة مقامة في 6 محافظات".
وبحسب الاستراتيجية المعلن عنها لمعالجة مياه البحر والصرف الصحي، فإنّ الكلفة المتوقعة لإنشاء المحطات تصل إلى 435 مليار جنيه (27.4 مليار دولار).
وبحسب الأرقام الرسمية، تمتلك مصر حالياً 65 محطة تحلية لمياه البحر بطاقة إنتاجية تقدر بـ750 ألف متر مكعب يومياً، منتشرة في عدد من المحافظات الساحلية مثل مطروح وجنوب سيناء والسويس والإسماعيلية وشمال سيناء، فضلاً عن أنه يتم حالياً إنشاء 19 محطة جديدة بتكلفة تقدر بـ11 مليار جنيه، فيما تقدّر طاقتها الإنتاجية بـ550 ألف متر مكعب يومياً، ومن المقرر الانتهاء منها خلال 18 شهراً.
وبحساب إنتاج المحطات الموجود بالفعل، يتّضح أنّ كميات المياه الناتجة عنها هي 274 مليون متر مكعب سنوياً، أما إنتاج المحطات الجاري تنفيذها فتقول الأرقام الرسمية إنه سيصل إلى 200 مليون متر مكعب سنوياً، وبالتالي فإنّ إجمالي كمية المياه المنتجة من التحلية ستصل إلى 474 مليون متر مكعب سنوياً، أي أقل من 1 في المائة من حصة مصر من مياه النيل التي تصل إلى 55.5 مليار متر مكعب سنوياً، وهي الكمية التي تواجه مصر معها عجزاً في المياه.
وقال نائب وزير الإسكان لشؤون البنية الأساسية سيد إسماعيل، بحسب ما نقلت عنه صحيفة "أخبار اليوم"، إنّ "استراتيجية الدولة لمعالجة وتحلية المياه، طموحة"، موضحاً أنها تنقسم إلى محورين: الأول يتضمن تنفيذ عدد من محطات تحلية مياه البحر بتكلفة إجمالية تقدر بـ135 مليار جنيه، والثاني يتضمن استكمال مشروعات الصرف الصحي في جميع محافظات الجمهورية بتكلفة 300 مليار جنيه. وأضاف أنّ "الاستراتيجية بدأ تنفيذها بالفعل بداية العام الحالي، ومن المقرر الانتهاء منها بحلول عام 2050، وسيتم تقسيمها طبقاً لـ6 خطط خمسية، ومتابعة تنفيذها بشكل دوري".
تمتلك مصر حالياً 65 محطة تحلية لمياه البحر
وفي تحقيق سابق لـ"العربي الجديد"، وصف رئيس قسم الموارد الطبيعية بـ"معهد البحوث والدراسات الأفريقية"، عباس شراقي، عملية تحلية مياه البحر بهدف استخدامها في الزراعة بالحلّ "غير الواقعي" لأزمة موارد مصر المائية المتراجعة، والتي يتهددها سدّ النهضة الإثيوبي بمزيد من الخطر، وذلك لأسباب اقتصادية وبيئية. وهو ما وافق عليه خبير الموارد المائية وأستاذ استصلاح الأراضي والمياه بجامعة القاهرة، نادر نور الدين، الذي أوضح لـ"العربي الجديد"، أنّ الأراضي الزراعية تحتاج سنوياً إلى 57 مليار متر مكعب من المياه، أي أكثر من حصة مصر من مياه النيل التي تبلغ 55.5 مليار متر مكعب، مقارنة بثلاثة مليارات متر مكعب تستخدمها الصناعة، وعشرة مليارات متر مكعب من المياه للاستخدام المنزلي، ما يعني أنّ العجز الحقيقي الذي تعاني منه مصر هو في مياه الزراعة والتي لا يمكن تغطية حجمها الهائل عبر تحلية المياه.
من جهته، قال خبير جودة المياه سمير عزت، إنّ محطات التحلية الموجودة في مصر حالياً تعاني من غياب الرقابة الحكومية وستكون لها تأثيرات بيئية خطيرة. وتابع في تصريحات خاصة: "هناك سوء استخدام لمحطات التحلية في مصر، خصوصاً في الساحل الشمالي؛ فعلى سبيل المثال توجد في منطقة مارينا بالساحل الشمالي 4 محطات لتحلية المياه وتخدم القاطنين هناك على مساحة 13 كيلومتراً، لكنّ المؤسف أنّ من يديرون تلك المحطات يستخدمون مياه النيل ويضخونها في المحطات كأنها مياه ناتجة عن التحلية، وهو ما يعدّ سوء استغلال وإهدارا للمال العام". ولفت إلى أنّ "هذه المحطات تمّ إنشاؤها بمنحة كندية وصلت كلفتها إلى 40 مليون جنيه، وهي حالياً متهالكة تماماً بسبب سوء الاستخدام".
كما أوضح الخبير نادر نور الدين، أنّ "مصر تحتاج 50 مليار جنيه سنوياً لتحلية مياه البحر، وهي تكاليف إنشاء المحطات وكلفة الكهرباء المستخدمة بها، وهو ما يعني أن تحلية مياه البحر مناسبة فقط للدول الغنية وليس للدول النامية مثل مصر. ومن ثمّ فلا جدوى اقتصادية من استخدام تقنية تحلية مياه البحر في الزراعة، خصوصاً أنّ كلفة المتر المكعب الواحد من المياه المحلاة بواسطة محطات التحلية تكلف ما بين 48 و68 سنتاً أميركياً، بما يعادل ما بين 10 و12 جنيهاً مصرياً، وتستلزم 10 جنيهات أخرى ككلفة التوصيل وتركيب المواسير لمسافة أكثر من 60 كيلومتراً، بخلاف إنشاء محطات التحلية، إذن الكلفة ستزيد على 20 جنيهاً للمتر الواحد".
وتابع نور الدين: "هذا ليس كل شيء، إذ يشترط أيضاً أن يكون للدولة مصدر رخيص للطاقة الكهربائية، لأنّ مياه البحر تعتبر مورداً شحيحاً ذا استهلاك عالٍ للكهرباء، إذ تحتاج تحلية متر مكعب واحد 2.5 كيلو وات في الساعة من الكهرباء، بخلاف أن كلفة التخلص من النفايات الناتجة عن التحلية مرتفعة جداً".
يتفق أستاذ الاقتصاد الزراعي، محروس سالم، مع الرأي السابق، موضحاً أنّ "مصر ليس فيها منظومة آمنة للتخلّص من مخلفات المياه المالحة، إذ إنّ المياه المعالجة من خلال محطات التحلية يخرج منها ثلث المياه محلاة يمكن استخدامها في الزراعة، بينما الثلثان الباقيان تكون مياههما شديدة الملوحة وغير صالحة للاستخدام، وفي حال التخلّص منها في البحر مرة أخرى تزيد الملوحة بشكل أكبر ما يؤثر على البيئة البحرية والمائية والثروة السمكية ويخلق خللاً بيئياً، وهذا ينطبق على المحطات الحكومية والخاصة معاً". وهو ما حذّر منه خبير جودة المياه سمير عزت من واقع مراقبته لمحطات التحلية في الساحل الشمالي، قائلاً: "يقوم المستثمرون ممن يعمدون إلى تحلية مياه البحر أو تنقية المياه الجوفية بإلقاء مخلفات التحلية في البحر مرة أخرى، وهو ما يؤدي إلى تأثيرات بيئية خطيرة، فالمواد الناتجة عن التحلية تكون شديدة الملوحة وتدمر البيئة البحرية، كما تضر بالإنسان الذي يتناول الأسماك الملوثة بالمعادن الثقيلة الناتجة عن عملية التحلية، فضلاً عن أنها تقتل الأسماك. وكل ذلك يحدث في ظلّ غياب الرقابة الحكومية على تلك المحطات".
محطات التحلية الموجودة في مصر حالياً تعاني من غياب الرقابة الحكومية وستكون لها تأثيرات بيئية خطيرة
ومن غير المنطقي زراعة القمح أو الذرة أو الأرز، والتي تعدّ محاصيل استراتيجية تستوردها مصر، بمياه محلاة، لأنّ كلفتها الاقتصادية سترتفع بشدة، كما أوضح رئيس قسم الموارد الطبيعية بـ"معهد البحوث والدراسات الأفريقية"، عباس شراقي، مشيراً إلى أنّ تلك المياه "لها تأثيرات سلبية على الأراضي الزراعية، إذ تؤدي إلى تدهور الأرض الزراعية وخصوبتها وتملُّحها، كما أنها يمكن أن تتسرب إلى المياه الجوفية وتؤثر أيضاً على جودتها".
وكانت مصادر حكومية مصرية بمجلس الوزراء ووزارة الري، قد كشفت عن اتفاقات وشيكة بين رئيس الجمهورية عبد الفتاح السيسي والقيادة الصينية، ومع الاتحاد الأوروبي ودول أخرى، كل على حدة، على مجموعة من القروض والمنح "التي سيظلّ قسم كبير منها سرياً غير معلن"، سيتم تخصيصها لمشروعات رفع كفاءة شبكة الري ومياه الشرب وتحسين استفادة مصر من كميات المياه الواردة إليها وتنقيتها وجلب نظم حديثة لتحسين الجودة والتحلية والمعالجة، بقيمة إجمالية ستفوق 350 مليار جنيه مصري (22 مليار دولار). وتمثّل هذه القيمة النسبة الأكبر من مبلغ إجمالي قدره 430 مليار جنيه (27 مليار دولار) لتنفيذ جميع المشروعات الخاصة بهذا المجال، على أن يتم تمويل 50 ملياراً (3.1 مليارات دولار) أخرى من النسبة الباقية من المساعدات والقروض الإماراتية والسعودية. ويبقى حوالي 30 مليار جنيه (1.8 مليار دولار) سيتم تمويلها عن طريق طرح بعض المشروعات ذات العائد من تلك الحزمة، لدخول القطاع الخاص مع الشركات التابعة للقوات المسلحة.
وأبدت مصادر سياسية واقتصادية حكومية أخرى، خشيتها من التأثيرات السلبية لهذه القروض، التي توقعت المصادر نفسها، ألا تقلّ نسبتها عن 70 في المائة من المساعدات المتوقعة. وهو ما يحمّل الاقتصاد المصري الذي يشهد أصلاً معضلات كبرى، مشاكل جديدة، يمكن أن تدفع به إلى مآلات غير مسبوقة، تهدده بمخاطر تقترب من حافة "الخطر الذي لا يمكن علاجه"، خلال عقود.