تَبنّى البرلمانُ الأوروبي، سنةَ 2010، توجيهاً يتعلَّق بالحق في الترجمة الفورية بتوفير مترجِم وترجمة الوثائق المكتوبة أثناء الإجراءات الجنائية، إحقاقاً لحق كلِّ مُتابَع في محاكمة عادلة. وجليٌّ أن هذا القرار يكشف رغبةً صريحة في صَوْن كرامة مواطني الاتحاد الأوروبي أوّلاً، ولكل منْ يُتابَع على أراضيه ممّن لا يُتقن التحدُّث بلغة البلد الذي يُوجَد فيه ثانياً.
ولا يخفى أنّ القرار ينسجم مع قولة الناقد الأميركي بول أنجل الذي رأى الترجمةَ قدراً لا فكاكَ منه، و"يجب أن تكون الجملة الحاسمة بالنسبة إلى السنوات الباقية من حياتنا على الأرض هي: الترجمة أو الموت. إن أسباب الحياة بالنسبة إلى كل مخلوق على ظهر الأرض ربما تعتمد يوماً ما على الترجمة الفورية والدقيقة لكلمة واحدة". ويتأكد بذلك أن الترجمة حقّ لكل إنسان مهما كانت جنسيته أو ثقافته أو عِرقه، بل إنَّ أوروبا اعتبرَتْها، على لسان أومبرتو إيكو "لُغَتَها الموحِّدة بينها".
لكنّ الترجمة يُنظر إليها في المجاليْن الأدبي والفكري من زاوية مختلفة تماماً؛ فطالما أن الترجمة تُصنَّف بكونها كتابةً حول كتابة أو إعادة كتابة، أو قولاً على قول، أو كتابة متفرّعة عن أصل، فمعناه أن وجودَها يرتهن إلى عمل سابق عليها؛ ما كان لها أن توجد لولاه، فهي تَقبَل تلقائياً بأنْ يُعَدَّ المترجِم مؤلِّفاً ثانياً للعمل، لذلك وُضعت قوانين من قِبَل دُول وهيئات ومنظَّمات، لعلَّ أشهرها "المنظَّمة العالَمية للملكية الفكرية" WIPO، التي ألحَّت على أنْ تُراعى حقوقُ تأليف المترجِم، ولا تفتأ تناضل من أجل أن ينال مكافأته المادية على جهده، وفي أن يظهر اسمُه على غلاف الكتاب، وسواها من الحقوق، على غرار ما يحظى به المؤلِّفون.
لكن الحق في الترجمة لا يقف عند المؤلِّف والمترجِم وحدهما، فالعالَم المعاصر يشهد سرعة خارقة في انتقال المعلومات والخبرات والمعارف، وينتقل كل ذلك بلغات مختلفة اختلاف الثقافات وتنوُّعَ الأجناس، لذلك يحق للمجتمع ككل، ولأفراده أن يُفيدوا من الآخر المتعدِّد تعدُّدَ ثقافات العالَم، ولا سبيل إلى بلوغ ذلك سوى تعلُّم لغات العالَم الكثيرة وإتقانِها، وهو أمر مستحيل، أو اعتماد الترجمة وسيطاً بين ثقافتيْن، وهذا طريق ممكن إذا ما تهيَّأت له ظروف وشروط، ويكون تدريس الأدب المترجَم في المؤسسات التعليمية مدخَلاً رئيساً إلى ذلك.
هكذا تُقدِّم لنا الترجمةُ العالَم من منظور يكاد يكون مُباشراً، وتُبرِزُه الحياة لدى الآخرين متحضِّرةً، وتكاد تكون مُتحلِّلة من التحكُّم الذي تفرضُه، في المجتمعات المحافظة والدول المستبدَّة، دوائرُ لها مصلحة أكيدة في إبقاء وضع شعوبها في حال معيَّنة، وأنْ يسودَ تلك الشعوبَ منظورٌ واحدٌ إلى الوجود والأشياء، في الوقت الذي لا تتوقَّف فيه الحياةُ عن التغيُّر والتحوُّل والتجدُّد.
تسمح لنا الترجمةُ بالاتصال والتواصل مع فكر وأدب مكتوبيْن في لغة كان يتعذَّر علينا قراءتُها، وكان يستحيل علينا أن نتخيَّل عقد أيّ علاقة مع ثقافتها ومُتكلّميها، فتَضْمن لنا الانفتاحَ على الآداب والفكر العالميين، وتوفِّر لنا إمكان تحقيق حياة سعيدة للذات وللآخرين عبر التواصل والسعي إلى الفهم والتفهم والتفاهم، وبالتالي فهي بصفتها متفرِّعة عن الأدب، أو لأن قضاياها من قضايا الأدب، لا تخفي - وَفْق عبارة بول ريكور- تطلُّعَها إلى الحياة الجَيِّدة والخيِّرة، "للحياة مع الآخر ومن أجله في إطار مؤسَّسات عادلة"؛ أي ما يُعرَف لديه في فلسفته بالاستهداف الأخلاقي.
إذن، لا غرابة في أن تجابه الترجمةُ مُقاوَمةً شرسة للحيلولة دون رواج سوقها، وفي أنْ تغدو هي أيضاً وسيلة للسيطرة والتحكّم؛ لأنها يُمكن أن تُستَغلَّ في الترويج من قبل تلك الدوائر لنوع من الترجمة الموَجَّهَة التي تُذيع إيديولوجيا وخطابات تخدمها لإخراج مَحْكوميها من التاريخ الفعلي، فتنهج أساليب التفافية عديدة كأنْ تَدعم ترجمة نوع معيَّن من الكتب، وتحجب ذلك الدعم عن كتُبٍ لا تتماشى ومصالحها الذاتية، وتَحْرِمها من الجوائز الخاصة بها، ومن مؤسَّسات أكاديمية تُدرِّسها، ومن مراكز تتخصَّص فيها، إلخ.