يومياً، يتوجّه حميد سكال إلى حقول زراعية قرب منطقة العفرون في ولاية البليدة (70 كيلومتراً جنوب العاصمة الجزائرية)، لجمع "السلق". يقضي وقتاً في جمع ما أمكن منه، خصوصاً النوع الذي يتميّز باحمرار في جذوعه، إذ يوضح أنه مطلوب لدى الباعة. يغسل حميد هذه الحشائش وينظفها من الأتربة، ثم يقسّمها ويضع أطرافها في المياه، قبل أن ينقلها فجر اليوم الثاني إلى السوق.
خلال 11 عاماً، تمكّن حميد من شراء بيت صغير وسيارة متواضعة تساعده على نقل بضاعته، بعدما أصبحت الدراجة النارية الصغيرة التي كانت في حوزته لا تفي بالغرض. سابقاً، كان يبيع نبات السلق على الطريق العام قرب مرتفع الشفة، خصوصاً أيام العطل. ويستقطب المرتفع عدداً كبيراً من الجزائريين القادمين من مناطق بعيدة والسياح. يقضي يومه في التلويح للسيارات بربطة من السلق، فيتوقف أصحاب السيارات لشراء حاجاتهم من هذا النبات البري. وخلال فصل الشتاء، ينتقل للبيع في أسواق الخضار. أعجب بعض التجار بإتقانه عمله واعتنائه ببضاعته، واتفقوا معه على شراء بضاعته صباح كل يوم. لم يكن حميد مهتماً بفارق الربح الذي يحصل عليه التجار. الأهم بالنسبة إليه أنه وجد أخيراً طريقة لتسويق بضاعته، كما زاد عدد زبائنه.
ظروف الحياة الصعبة تدفع العشرات إلى بيع مثل هذه الحشائش لضمان لقمة العيش. ووجدت بعض الأسر ضالتها لضمان مصاريف الأولاد. حميد وكثيرون غيره يتخذون من بيع الحشائش والنباتات التي تستعمل في الطهي، كالقصبر والبقدونس، عملاً لهم. آخرون يعدّون مشروبات كالنعناع وغيرها، ويبيعونها. كان هذا بالنسبة إلى البعض خياراً وحيداً لكسب الرزق.
في هذا السياق، يقول نور الدين، وهو أب لخمسة أطفال، لـ"العربي الجديد": "الأسرة الجزائرية لا يمكنها الاستغناء عن الحشائش. من دونها، لا طعم للأكلات. لذلك، أشتري البقدونس من المزارعين في الريف، وأعيد بيعه في الأسواق للزبائن. أكسب منه قوت يومي وقوت عائلتي". يضيف نور الدين، الذي أحيل إلى التقاعد منذ ثماني سنوات، أنه رفض الاستسلام. ويوضح: "أجد متعة في التوغل في حقول البرتقال في بلدة وادي جر في ولاية البليدة لقطف السلق وحشائش أخرى تستخدم في الطهي. صحيح أن بعض الجزائريين لا يشترونها اليوم، إلا أن آخرين ما زالوا يطهونها، مثل ما يعرف بالخبيز والقرنينة". يتابع: "من يريد الحصول على أجر يومه، عليه الاستيقاظ باكراً".
تزداد تجارة بيع النباتات أو الحشائش مع حلول شهر رمضان، إضافة إلى فصل الصيف، إذ يكثر إعداد الولائم في الأعراس. نور الدين عرف هذه التجارة بعد تقاعده من عمله في سكك الحديد. يقول إنها تجارة رائجة ورابحة، لكنها تحتاج إلى التمتع بـ"فن العرض". يضيف: "لا تتطلب جهداً لعرضها في باب الأسواق أو في الأحياء الشعبية، لكنها تتطلب شخصاً قادراً على أن ينادي على الزبائن، وعرضها بشكل جيد ونظيف". ويشير إلى أنه يبيع الربطة الواحدة من النعناع بما يعادل ربع يورو والسلق بما يعادل يورو واحداً.
في العطل المدرسية، ينافس الأطفال الكبار في بيع الحشائش على ناصية الطرقات المحاذية للأسواق، أو الطرقات العامة في أطراف المدن. وصاروا يمتهنون العمل كحرفة بعد انتهاء الدراسة. منهم من ودع الدراسة نهائياً ليعمل بائعاً، على غرار عادل (12 سنة). يضيف: "لم أنجح في المدرسة، وصرت أبيع الحشائش، خصوصاً المعدنوس والنعناع في الأسواق، وبت قادراً على مساعدة عائلتي وتأمين مصروف جيبي". هذا الطفل الصغير بات أحد معيلي الأسرة، باعتباره يتيم الأب. يقول لـ"العربي الجديد"، إنه ذهب إلى حقل صغير تملكه العائلة، حيث زرع شقيقه الأكبر بعض الحشائش، إضافة إلى الخضار. يضيف أنه كان يبيع هذه الحشائش إلى النساء في المنازل مباشرة. يدق الأبواب ويعرض بضاعته. يقول: "أجد دائماً من يشتري مني. ويمنحني البعض أكثر من اللازم من باب العطف. لست محتاجاً للعطف، لأنني أعمل بعرق جبيني"، مشيراً إلى أنه بات يبيع أيضاً النعناع لأصحاب المقاهي التي تستعمله لإعداد مشروب النعناع والشاي للزبائن.
في سوق مدينة العفرون في ولاية البليدة للخضار، كما في أسواق كثيرة، توضع طاولات وسلل خاصة فيها حشائش يقتنيها الزبائن. يقول أحدهم: "سلة المشتريات تكون ناقصة من دون شراء المعدنوس والقصبر والكرافس والنعناع". ويرى أن الطهي يحتاج إلى نكهة لا يمكن الحصول عليها سوى من خلال هذه النباتات والحشائش البسيطة. قد يهملها البعض، لكنها رزق بالنسبة للبعض الآخر.