غداة فوز إيمانويل ماكرون بالرئاسة الفرنسية دقت ساعة الحساب في الحزب الاشتراكي، الذي بات في قصة موت غير معلن بسبب الخلافات المستفحلة داخله. وجاء أخيراً رئيس الوزراء الاشتراكي السابق مانويل فالس ليدق آخر مسمار في نعش الحزب، معلناً أن "الحزب الاشتراكي مات وهو وراءنا الآن". وذلك في معرض تصريح أكد فيه أنه سينضم إلى الغالبية الرئاسية تحت يافطة حركة "الجمهورية إلى الأمام" والرئيس الجديد ماكرون.
واختار فالس، الذي كان دعا إلى التصويت لماكرون قبل الدورة الأولى من الرئاسيات، هذا التوقيت بعناية لإعلان خروجه النهائي من الاشتراكي في اليوم نفسه الذي اجتمع فيه المكتب السياسي للحزب لتدارس وتحديد لائحة المرشحين باسمه إلى الانتخابات التشريعية في 11 و18 يونيو/ حزيران المقبل ويستعد لتقديم برنامج تشريعي جديد.
والواقع أن وفاة الاشتراكي وانهياره ككيان سياسي متماسك ظهرت واضحة للعيان ليلة إعلان نتائج الدورة الأولى للانتخابات الرئاسية في 23 إبريل/ نيسان الماضي، حين تمّ إقصاء مرشحه الرسمي بونوا هامون من السباق، واحتل الدرجة الخامسة في الترتيب بنسبة مهينة وغير مسبوقة في تاريخ الحزب لم تتجاوز 6.3 في المائة.
ومنذ تلك الليلة بدا الاشتراكي كأفراد عائلة متناحرة لا يتحدثون سوى بلغة التخوين والاتهامات المتبادلة. وجاء فوز ماكرون، الأحد الماضي، ليزيد من تعميق الشرخ بين التيارين اليساري والحكومي رغم المحاولات اليائسة للأمين العام للحزب جان كريستوف كامباديليس، من أجل ترميم الصدع وإنقاذ ماء الوجه بتقديم لائحة باسم الحزب للانتخابات التشريعية المقبلة.
وكانت قيادة الحزب تدارست الأسبوع الماضي صيغة جديدة لبرنامج اشتراكي للانتخابات التشريعية، وتم التوافق على حذف عدد من النقاط التي وردت في برنامج المرشح المهزوم هامون، تحديداً تلك التي خلقت موجة من الاستياء في صفوف التيار الحكومي والإصلاحي، مثل "الراتب الكوني" و"الثورة البيئية". في المقابل، تمت إضافة مقترحات جديدة مشابهة لتلك التي ينادي بها الرئيس ماكرون، مثل إلغاء ضريبة السكن لصالح 80 في المائة من الفرنسيين. واحتج أنصار هامون بشدة على هذه التعديلات واعتبروها خيانة في حق أعضاء الحزب والمتعاطفين معه، الذين صوّتوا بكثافة لصالح هامون في الانتخابات التمهيدية داخل الاشتراكي، في 29 يناير/ كانون الثاني الماضي، واختاروه مرشحاً على أساس برنامجه الانتخابي.
غير أن هذا الصراع حول البرنامج يخفي في الحقيقة صراعاً عنيفاً آخر يدور حول الموقف الذي يجب أن يتخذه الحزب إزاء الرئيس ماكرون وولايته الرئاسية المقبلة. فالتيار اليميني بقيادة فالس، حسم الأمر قبل الدورة الأولى للانتخابات وبدل مساندة مرشح الحزب الرسمي دعا إلى التصويت لماكرون، ثم عاد أمس، الثلاثاء، معلناً انضمامه إلى الغالبية الرئاسية وخوض الانتخابات التشريعية تحت يافطتها، ما يعني المغادرة الطوعية للاشتراكي.
أما هامون، فقد اتخذ موقفاً معاكساً ودعا هو الآخر مباشرة بعد إعلان نتائج الدورة الأولى، إلى تأسيس ما وصفه بـ"اتحاد يساري"، يجمع بين الاشتراكيين والخُضر والشيوعيين وحتى أنصار اليسار الراديكالي من "فرنسا المتمردة" بقيادة جان لوك ميلانشون، وذلك من أجل خلق جبهة مقاومة ضد ماكرون. كما طالب مقربون من هامون المكتب السياسي، ومنهم النائب غيوم بالاس، بـ"طرد جميع الذين ساندوا ماكرون قبل الدورة الأولى وتخلوا عن مرشح الحزب"، وعلى رأسهم مانويل فالس ووزير الدفاع الاشتراكي جان إيف لودريان.
وبعد مغادرة فالس الاشتراكي بمحض إرادته، اعتبر النائب الأوروبي ماتيو هانوتان، المقرب من هامون، أن "الأمور صارت واضحة تماماً، وهو بالنسبة لنا خارج الحزب". وفي مبادرة تشي بروح انتقامية، دعا البرلماني الأوروبي إلى تعيين مرشح اشتراكي في مواجهة فالس في دائرته الانتخابية في ليسون، والعمل من أجل إسقاط فالس وحرمانه من مقعد في البرلمان المقبل.
وبين التيار اليميني المساند لماكرون واليساري الرافض له هناك تيار وسطي يحاول رأب الصدع وإنقاذ الاشتراكي من الموت، وهو التيار الذي يتزعمه الأمين العام كامباديليس، الذي يدعو إلى ما يسميه "استقلالية يقظة" تجاه رئاسة ماكرون، في موقف يشبه إمساك العصا من الوسط.
ومن قصر الإليزيه حيث يقضي أيامه الأخيرة والمعدودة في الرئاسة، يتأمل الرئيس فرانسوا هولاند مشهد احتضار الاشتراكي بكثير من اللامبالاة والبرود، بعد أن فقد كل سلطة على الحزب منذ أن اختار التخلي عن الترشح لولاية ثانية في مستهل ديسمبر/ كانون الأول الماضي.
والواقع أن العديد من الاشتراكيين يعتبرون أن هولاند الذي كان حتى عهد قريب ضامن وحدة الاشتراكي، هو من عجّل بموته، لأنه عمّق الشرخ بين التيارين اليميني واليساري خلال ولايته الرئاسية، حين طرد وزيري التعليم بونوا هامون والاقتصاد آرنو منتيبورغ في صيف 2014، واختار مانويل فالس رئيساً للحكومة، وهو ما أشعل الحرب بين التيارين داخل الحزب.
وبعد خروج فالس من الاشتراكي، يبقى الرهان الوحيد هو مدى قدرة القيادة الحالية للاشتراكي بزعامة كامباديليس على إخماد غضب أنصار هامون والتوافق على أرضية مشتركة ربما تكون أكثر ميلاً لطروحات هامون من أجل خوض الانتخابات التشريعية باسم الاشتراكي. ولا شك أن هذه المهمة لن تكون باليسيرة في السياق الحالي.