إذا كانت الحريةُ، قرينةُ الديمقراطية، هي البديل الأساسي للاستبداد، فإنّها، في السياق العربي الراهن، قرينة لمبدأ العدل. وليس يخفى أن العالم العربي وبعض الأقطار مما يمكن أن يلحق بالعالم الإسلامي، تشهد منذ عقود قريبة نزعةً اجتماعية - سياسية تتميّز وتشدّد على الاقتران بين الحرية وبين العدل.
نحن نعلم أن العلاقة بين هذين الحدّين كانت وما تزال موضوع تحليل ونقاش وجدل في الفلسفة السياسية الغربية، وأن التقابل بين الليبراليين والجماعتيّين والليبراليين الجدد (الليبرتاريين) والنفعيين والتعاقديين أقام الدنيا ولم يُقعدها.
وفي جانب أساسي من هذه الفلسفة ثار مشكل الاقتران بين العدل وبين الخير، واشتدّ النقاش، في ظلال مِل وكانط، حول مسألة "الأسبقية" في هذا الاقتران أو في هذه العلاقة؛ وجدليات مايكل ساندل وجون رولز تشارلز تايلور ومايكل فالتسر، ذائعة منذ أن أظهر رولز كتابه المشهور، نظرية العدالة في عام 1971، ثم أجرى فيه بعض التعديل في "العدالة بما هي إنصاف" في عام 1985.
ما يثير اهتمامي في هذه الجدليات، مما هو ذو علاقة بسؤال الحرية والعدل، هو التساؤل حول مشكلة "الأسبقية" الذي أرى أن نثيره في المقارنة المدقِّقة لسؤال الحرية والعدل في أوضاعنا العربية الراهنة، وهو سؤال لم يعرض له أبرز المفكرين والباحثين الذين نظروا في مسألة الحرية والحريات: عبد الله العروي في كتابه "مفهوم الحرية"، ومحمد عزيز الحبابي في كتابه "من الحريات إلى التحرّر"، وعلال الفاسي في كتابه "الحرية"، وراشد الغنوشي في كتابه "الحريات العامة في الدولة الإسلامية".
والمفكّر الوحيد، في ظنّي، الذي تنبّه له هو ناصيف نصّار في "باب الحرية"، والسؤال هو: أيهما أسبق: الحرية أم العدل؟ بالطبع ثمة من قد يسارع إلى القول بأسبقيتهما كليهما معاً! وأنه لا ينبغي الفصل بينهما أو تقديم أحدهما على الآخر، وهذا على وجه التحديد، ما نشهده في الواقع الاجتماعي - السياسي العربي، والإسلامي المجاور: إسلاميّو تركيا يُطلقون على حزبهم السياسي المشتق أو الخارج من "حزب الرفاه": حزب العدالة والتنمية؛ الإخوان المسلمون المصريون أطلقوا على ذراعهم الحزبية السياسية: "حزب الحرية والعدالة"؛ وجماعة عبد السلام ياسين في المغرب أطلقت على نفسها "جماعة العدل والإحسان".. كلها أحزاب وجماعات دينية سياسية تموضعت في المعارضة السياسية قبل أن يدرك بعضها السلطة، ودافعت عن الحرية والعدل، لكنها لم تُثر سؤال: أيهما أسبق؟ الحرية أم العدل؟ فضلاً عن أن ماهية الحدّين ظلّت غامضة وبلا تحديد، مفهومياً، وأنه يمتنع الأخذ بهما معاً في حياةِ نظم الاستبداد، وأن مفهوم "المستبد العادل" الذي يُقرن في التقليد الإيديولوجي الإسلامي بالخليفة عمر بن الخطّاب، هو مفهوم متناقض.
لأن الاستبداد ينقض الحرية، والحرية حق طبيعي أساسي لا يمكن لمبدأ العدل أن ينهض في وجهه أو أن ينكره.
ثمّة إذن سؤال جوهري هنا.. إذا كنّا لا نملك إقامة اجتماع سياسي حرّ وعادل في نظام الاستبداد، فإن من الضروري أن نسأل، في طريق مكافحتنا للاستبداد ونشدان التحرّر، بأي منهما يتعيّن البدء؟ بمطلب الحرية أم بمطلب العدل؟ الجواب عندي - والسؤال مطروح على المفكّر العربي المعاصر - أننا لا نستطيع أن نبدأ بمبدأ العدل؛ لأن المستبد أو الطاغوت لن يكون عادلاً أبداً، لأن الاستبداد، في ماهيّته، لا يقبل ضدّه، العدل. فيتعيّن إذن أن يكون البدء بالحرية، أعني بـ "فعل الحرية". والمقصود هنا الحرية بما هي حق، بل بما هي جملة حقوق أساسية، هي الحقوق المدنية: حرية الرأي، حرية العقيدة، الحرية الدينية، حرية التعبير... إلخ. هذا في المرحلة الأولى، أي في البداية، أي الآن.
ثم إن النظر في العدل وإنفاذه من حيث التحديد والماهية، وأشكال تحقّقه وكل متعلّقاته، يأتي في مرحلة تالية، أي في "عهد الحرية"؛ وهنا سيكون على المفكّر العربي أن ينظر في مشكل العدل في حدود المعطيات العربية المشخّصة المباشرة، لا بإسقاط مطلق نظرية مُسبقة وغير مطابقة من بين النظريات المتداولة في الفلسفة السياسية والأخلاقية الغربية أو غيرها، إنما بتشخيص الواقع واقتراح الصيغ الفاعلة المجدية، الضامنة للتقدُّم، أي بالتوجّه إلى النظرية، المفردة، أو "المركّبة"، التي تتوافق مع الحريات الأساسية وتصلح لإنتاج واقع جديد تحيا فيه جنباً إلى جنب قيم الحرية والعدالة والخير والسعادة.
وفضلاً عن ذلك، علينا منذ الآن أن نعتبر، في عملية التفكير في المسألة، الإجابة عن السؤال التالي: ما هي الحرية التي تناسبنا والتي ينبغي أن نطلبها؟ أعني الحرية التي تقترن بالعدالة عند توافر الاثنين. من المؤكّد أننا حين ندافع عن الحرية ندافع عن شكل ما من أشكال الليبرالية، لأن الليبرالية أشكال: الليبرالية الكلاسيكية، والليبرالية الاجتماعية، والليبرالية الجديدة، الليبرالية الديونطولوجية.. لقد سبق لي أن دافعت عن شكل من أشكال العدل الذي يقترن بالليبرالية الاجتماعية ويوافق الأوضاع والشروط والمطالب العامة في الأغلبي من الأقطار العربية، كما أنه وثيق القرب مما يسميه مايكل ساندل: "الليبرالية الديونطولوجية".
لكن المسألة تستحق مزيداً من النظر والاجتهاد، في حدود وقائعنا العربية المباشرة؛ وإنه لخير للمفكّر العربي أن يعيد طرح السؤال واقتراح عنه، بدلاً من أن يفرغ وسعه ويهدر جهده في "السياحة" في سياقات مباينة، غير مطابقة، في الأغلبي من الأوضاع.
* مقتطف من محاضرة قدّمها المفكّر في "المؤتمر الخامس للعلوم الاجتماعية والإنسانية" أول من أمس
اقرأ أيضاً: فهمي جدعان.. تأويل النص مخرجاً من الأزمة