الحريات الفردية في تونس.. أي سقف وأي معنى؟

20 مارس 2017
استهلاك القنب حريّة فرديّة أم جريمة يجب العقاب عليها؟(Getty)
+ الخط -
حريّة المعتقد والحريات السياسية والاجتماعية كلها كانت المطالب القصوى التي يريدها المواطن التونسي في عهد الدكتاتورية، لذلك سُمّي دستور الجمهورية الثانية بدستور الحريات والذي تضمّن أكبر عدد منها.

قد تبدو مطالب الحريّة بديهيّة في كلّ المجتمعات الإنسانية وهي محلّ نزاع بين الفرد والدولة من جهة وبين الأفراد فيما بينهم من جهة أخرى، باعتبار أنّ ليس للدولة فقط أدوار الحد من الحريّات وحتى أن بعض تلك الحدود التي يضعها المشرّع إنما هي نابعة من ديناميكيّة مجتمعية ودفاع ذاتي أدرك المشرّع وجوب التنصيص عليه ضمن قوانين تحمي فضاءات مشتركة قد تهدّده حريات فرديّة إن بقيت ضمن أطرها لا يمكن تطبيق القانون عليها.

استهلاك القنب الهندي حريّة فرديّة أم جريمة؟
القنب الهندي أو ما يُعرف في تونس بـ"الزطلة" هو نوع من المخدرات الخفيفة التي يعاقب عليها القانون التونسي بسنة سجناً مع ألف دينار كخطيئة ماليّة، وتذكر الإحصائيات الرسمية بأن ما يقارب 40% من شباب المعاهد الثانوية استهلكوا هذه المادّة فيما تتجاوز هذه النسبة النصف في المجتمع التونسي، إلى جانب بلوغ عدد المساجين المتورطين في قضايا استهلاك القنب ثلث مجموع المساجين في تونس أي ما يقارب 7 آلاف سجين، علماً بأن السجون التونسية تعاني من الاكتظاظ بطاقة إيواء تتجاوز في بعض الأحيان 200% وهو ما يجعل من ظروف السجن لا إنسانية مع غياب التأهيل النفسي والطبيّ للمدمنين على المخدرات.


كل هذه المعطيات عن العدد الكبير من المساجين التونسيين المنتمين لفئة الشباب العاطل عن العمل والذي ليس له علاقة بالجريمة فيصبح لمجرّد استهلاك مادّة مصنفة على أنها مخدّر خفيف يتعرّف على عالم الجريمة عن قرب، وبعد أن كان مجرّد مستهلك تفتح له آفاق الانتماء لدروب أخرى من المخدّرات وغيرها من الجرائم، فالسجن مدرسة الجرائم على تنوّعها.

تعمد السلطات التونسية إلى إخضاع كل من عليه شبهة استهلاك الزطلة للتحليل وهي عمليّة تطاول المارّة في الشوارع وحتى الجالسين في المقاهي وتقوم بمداهمات المنازل من أجل البحث عن هذه المادّة، فيما تقوم نفس تلك السلطات بإباحة بيع الخمر في الأماكن العامّة والخاصّة إلى جانب التشجيع على الاتجار فيها عبر منح الرخص لذلك على الرغم من المضار العديدة صحيّاً على المجتمع، ولكن طالما أن الدولة تقبض الضرائب وتستحوذ على صناعة الخمور في تونس سيبقى الأمر قانونياً على الرغم من وجود عدّة نصوص قانونية تعتبر متروكة، ولكنها تجرّم بيع الخمر للتونسيين.

الخمر إذن ليست جريمة في حدّ ذاتها ولكنها تعتبر ظرف تشديد إذا اقترن شربها بجريمة أخرى كالسياقة في حالة سكر أو العربدة في الطريق العام، ولكن لا يمكن البحث عن المستهلكين في الشوارع لاعتقالهم ولا إجراء تحليل اختبار المادّة الكحولية عليهم، فالدولة تبيع وتجني الضرائب من وراء المستهلكين.

في المقابل لا ضرائب على استهلاك القنب الهندي ولا مصادر محدّدة يمكن فرض ضرائب عليها، وإلاّ ما الفائدة من تجريم الاستهلاك منذ 1992، وعدد المستهلكين في تصاعد إلى جانب عدم وجود آليات متابعة ومرافقة للمدمنين، حتى أن المراكز الاستشفائيّة التي كانت تساعد بعض مدمني المخدرات أغلقت بانتفاء الدعم من الدولة.

استراتيجية التجريم تفتقد لأي أفق معالجة لسلوكيات لا يمكن القبول بها على أنها حريّة في الفضاء المشترك ولا يمكن اقتحام الحياة الخاصّة للمستهلكين الذين لم يقوموا بجرائم جرّاء استهلاكهم لهذه المادّة.

أثيرت أخيراً في الأوساط الثقافية التونسية والسياسية الدعوة إلى عدم تجريم استهلاك القنب الهندي بالنسبة للمستهلكين للمرة الأولى، وهي خطوة نحو تجنيب العديد من الشباب ويلات السجن لمجرّد التجربة، ولكن هذه الخطوة ليست مؤسّسة على واقع ينخره الفساد خاصّة في مستوى الشرطة التونسية التي قد تبتزّك لمرّات لكي لا تحال إلى القضاء وتبقى دائماً في خانة المستهلك للمرة الأولى، كما يفتقد هذا الإجراء للتفكير في المتعاطي كفرد من المجتمع وجب إيجاد حلول ثقافية واجتماعية له بعيداً على العقوبة السجنية فيما تبقى العقوبات البديلة كالخدمة الاجتماعية ضمن جمعيات المجتمع المدني غائبة عن العقل السياسي التونسي الذي يراوح بين التجريم وتبسيط الظواهر.
المساهمون