الحرب على "أنا أيضا" المصرية
شاهد المصريون، قبل أيام، مشهدا جديدا على عيونهم، حيث انهالت سبع محاميات بالضرب بالأحذية على محام سابق أمام مجمع محاكم طنطا في محافظة الغربية، وتم تصوير الواقعة ونشرها إذلالاً له. سبب هذا أن هذا الشخص نشر، عبر قناته على "يوتيوب" مقطعاً ينتقد فيه تنظيم المحاميات رحلة شهدت "هشتكة وبشتكة ودلع"، موجهاً طعناً إلى سمعة محامية منهن بالاسم، تلتقي شخصاً في القاهرة، وغيرها من التفاصيل الشبيهة. كان النمط المعتاد سابقا أن تتحوّل المرأة التي تتعرّض لاتهامات شبيهة إلى ضحية فورية، تتلقى سهام الأسرة والمجتمع، لكن ما حدث كان العكس تماما، تقدّمت السيدات لأخذ حقهن "بذراعهن"، وشهّرن بالمعتدي بالطريقة نفسها، كما يتردد أن أقارب بعض المحاميات شهدوا الواقعة.
ليس الهدف هنا امتداح تلك الأساليب، فالأصل أن تتوفر آليات قانونية للجميع، لكن القصة تظهر جانبا من التطور السريع الذي تشهده مصر في ما يخص قضايا الاعتداء الجنسي وتعدّد أشكال ردود الفعل المجتمعية. وقد شهدنا خلال شهر واحد قائمة متسارعة من القضايا، تشمل كل طبقات المجتمع، كما شهدنا تغيرا في التغطيات الصحافية والتفاعلات الرسمية. في واقعة أخرى لافتة، تم امتداح تجاوب مأمور قسم الدقي مع شكوى تحرّش من فتاة ضد سائق ميكروباص، من دون أن تملك أي بيانات عنه، فجنّد المأمور كل جهوده حتى توصل إلى المتهم في الرابعة من صباح اليوم نفسه.
كل هذا التطور المتسارع تمت عرقلته بحدّة، بعد تعامل النيابة المفاجئ مع شهود واقعة الاغتصاب الجماعي في "قضية فيرمونت". إلقاء القبض على بعض الشاهدات، وتوجيه تهم من نوع "نشر الفجور"، وتسريب مواد شخصية لهن، ونشر أخبارٍ أن القضية كانت حفل جنس جماعي وممارسات مثلية تؤدي إلى خطر نشر الإيدز في مصر وغيرها.
يمكن وضع ما حدث في السياق السياسي العام في مصر، حيث ترى السلطة أي تنظيم مجتمعي خطرأ بحد ذاته، حتى لو كان لشبابٍ يشجّعون الكرة، كما حدث في حل روابط الأولتراس تحت الضربات الأمنية. لا يمكن السماح بأن يكون الأبطال هم الفتيات الشجاعات المتحرّرات، بل للأبطال الذين تفضلهم السلطة صفات أخرى، أولها البذلات الرسمية الشرطيّة والعسكرية. ولا ينبغي أن تكون نادين أشرف، التي أسست صفحة "بوليس الاعتداءات"، وكشفت عن شخصيتها أخيرا، نموذجا ملهما، فلدينا مصدر الإلهام الوحيد المسموح به في الثكنات العسكرية. كما أن نمط ظهور الشكاوى على مواقع التواصل الاجتماعي أولاً، ثم التوجه إلى النيابة التي تتجاوب مع الرأي العام، يبدو أنه كان مستفزّاً لمن يرى دور الشعب تلقي منح السلطة. لسان حالهم: نحن من يحكم لا أنتم!
وفي ما يخص حالة "فيرمونت"، ثمّة جانبٌ يخصّ ضيق المكونات التقليدية للسلطة المصرية تاريخياً بمكون طبقة رجال الأعمال الذي شهد صعوداً كبيراً في سنوات حكم حسني مبارك الأخيرة. وشهدنا في السنوات الأخيرة منافسة اقتصادية حامية بين الملاك القدامى والملاك العسكريين الجدد. لذلك، التنكيل والتشهير بالطبقة بالكامل هدفٌ وارد آخر.
ومن زاوية أخرى، تقدّم النيابة المصرية في عهدها الجديد حارسا لقيم "الأسرة المصرية"، كما شهدنا في وقائع القبض على فتيات "تيك توك" لمجرّد أنهن يغنين ويرقصن. في الهدف جانب سياسي، حيث تتخوّف السلطة من كل من يُحرز شهرة ومكتسباتٍ اجتماعية ومالية خارج سياقها، وفيه أيضا جانبٌ اجتماعي، يتعلق بنموذج المواطن المحافظ المثالي الذي تتبناه السلطة المصرية تاريخيا، بسبب مكونها العسكري، وأيضا الديني الرسمي، وزادت أهمية ذلك أخيرا في سياق الصراع مع الإخوان المسلمين، لتتحوّل ورقة مزايدة عليهم، في نمط شبيه بتشدّد السلطة السعودية بعد أحداث اقتحام الحرم المكّي في 1979. على الرغم من أنه سيكون للتطورات الأخيرة أثر بالغ الضرر في ثقة الناجيات بالتوجه إلى المسار القانوني، إلا أنها لن توقف المد الذي انطلق بالفعل، ويؤدّي تدريجيا إلى تغير مجتمعي عميق، وسيوجد آلياته المنفصلة للمحاسبة، حتى لو كانت باعتداءٍ نسائيٍّ بالأحذية.