أعادت الحرب السورية وسياسة النظام السوري في تفقير السوريين، مهناً مندثرة منذ عقود إلى حياتهم اليومية، إذ أجبر نقص الوقود والغاز المواطنين السوريين إلى إعادة إحياء المهن التقليدية الشعبية، لا سيما تلك التي كانت منتشرة في الأرياف.
وعادت صناعة مدافئ الحطب، أو تحويل مدافئ المازوت وسخانات الكهرباء، لتعمل على الحطب، كما الطهو على الحطب وانتعشت صناعة التفحيم و"التخشيب الاصطناعي" عبر تحويل مخلفات الزيتون بعد عصره "الجفت" إلى مادة أساسية للتدفئة يباع الطن منها بنحو 50 ألف ليرة، في حين يتم شراء "الجفت من المعاصر بسعر 20 ألف ليرة للطن. وإضافة إلى ذلك، أُحييت مهنة التحطيب التي أوصلت سعر الطن إلى أكثر من 100 ألف ليرة، بعد زيادة الطلب على الحطب وأثاث المنازل القديمة، وقدوم فصل الأمطار.
وحذر المهندس الزراعي، يحيى تناري، من تدهور المساحات الخضراء وتناقص أعداد الأشجار المثمرة في سورية، بعد التوجه نحو التحطيب وقطع أشجار الغابات، كحل وحيد بفصل الشتاء، لمواجهة البرد بواقع ندرة وغلاء المشتقات النفطية، وانقطاع التيار الكهربائي بالمناطق المحررة إلى أكثر من 22 ساعة يومياً.
وأشار العامل السابق بمديرية زراعة إدلب تناري، إلى بلوغ التحطيب وحرق الغابات، حدود المهنة، في ظل زيادة الطلب على الفحم وارتفاع سعر كيلو الحطب إلى أكثر من 100 ليرة سورية، ما يهدد الإنتاج الزراعي بعد قطع الأشجار المثمرة وتراجع مساحات الغابات الطبيعية، التي كانت قبل الحرب، تغطي نحو 240650 هكتاراً. واعتبر خلال حديثه لـ"العربي الجديد" أن حرائق الغابات، هي الأخطر على الثروة الحرجية في سورية، لأن الحكومة عاجزة عن إطفاء الحرائق، كما حدث أخيراً في غابات اللاذقية التي تعد الأغنى.
وكانت الحرائق بغابات محافظتي، اللاذقية وطرطوس، قد التهمت الأسبوع الفائت، 61 دونماً من أشجار الغابات، نتيجة 19 حريقاً، من أصل 140 حريقاً حرجياً و670 حريقاً زراعياً، شهدتهما المحافظتان منذ بداية العام الجاري.
في هذا السياق، يقول الإعلامي عبد السلام أبو خليل "زادت الحرائق بمحافظة اللاذقية عن مائتي ألف دونم هذا العام، لتبلغ تكلفة إعادة زراعتها عشرة مليارات ليرة سورية، وتحتاج إلى خمسين عاماً لتعود كما كانت عليه.
ويؤكد الإعلامي أبو خليل من ريف اللاذقية لـ"العربي الجديد" أن "بعض المتنفذين والمقربين من نظام الأسد يجدون في التفلت والفوضى مناخاً مناسباً لجني الأرباح، حتى لو عن طريق قطع الأشجار وبيع الحطب، أو حرق الغابات. ويفحّم بعض السكان المجاورة للغابات بعض الأشجار المحروقة، لزوم التدفئة، ويبيعون قسماً آخر ليسددوا بثمنه احتياجاتهم اليومية، بعد حصار التجويع الذي يمارسه الأسد على ريف اللاذقية المحرر".
في المقابل، دفعت معاناة السوريين بالمناطق المحررة لجهة تأمين المشتقات النفطية، بعد إغلاق طرق التهريب بين مناطق سيطرة تنظيم "داعش" وريفي حلب وإدلب، ورفع سعر ليتر المازوت إلى أكثر من 300 ليرة سورية، كثيرين للجوء إلى الحطب كمادة وحيدة للتدفئة، بواقع انقطاع التيار الكهربائي، لأكثر من 20 ساعة يومياً.
ويقول عضو الهيئة الشرعية في ريف إدلب، حسين الآغا، بات الحطب هو المادة الأكثر استخداماً في إدلب، وبات التحطيب وقطع الأشجار مهنة، بواقع زيادة الطلب وتفشي البطالة في المحافظة.
وحذر الآغا خلال تصريحه لـ"العربي الجديد"، من زيادة رقعة التصحر التي بدأت تظهر شمالي سورية، لأن قطع الأشجار بهدف التدفئة وطهو الطعام بواقع ارتفاع سعر أسطوانة الغاز المنزلي لنحو 8 آلاف ليرة سورية، فضلاً عن تراجع منسوب هطول المطر وهجرة كثير من المزارعين أراضيهم، ينذر بانحسار الرقعة الخضراء وتراجع المواسم الزراعية، خصوصاً بعدما بات الحطب سلعة مطلوبة يعمل فيها كثيرون، مستغلين انقطاع التيار الكهربائي وقلة وغلاء المشتقات النفطية.
ويؤكد المتحدث نفسه ارتفاع كيلو الحطب من 50 ليرة العام الفائت إلى نحو 100 ليرة هذا الشتاء، مشيراً إلى لجوء كثيرين في مناطق شمال سورية المحرر إلى تخزين الحطب منذ فصل الربيع، وقت بدأت عمليات "الشحالة" تقليم أشجار الزيتون واللوزيات، وظهرت مهنة تجارة الحطب بالشمال السوري. والحال ينسحب على ريف دمشق المحاصر منذ نحو أربع سنوات، إذ لا حل أمام أهالي غوطة دمشق الشرقية لمواجهة برد الشتاء، بعد ندرة المشتقات النفطية، سوى قطع الأشجار.
ويقول الناشط محمد شباط من ريف دمشق أن معظم الثروة الحرجية والأشجار المثمرة بغوطة دمشق، تعرضت للتعدي والقطع، بعد وصول سعر ليتر المازوت، إن توفر، لنحو 500 ليرة سورية.
ويضيف شباط لـ"العربي الجديد" بواقع عدم وجود سيولة وعمل لمن تبقى بالغوطة التي عاد القصف على مدنها بشكل وحشي من الطائرات الروسية، وتراجع الحملات الإغاثية التي شهدتها مناطق غوطة دمشق العام الفائت، كحملة "دفيني"، التي باعت الحطب بأسعار رمزية وأمنت مساعدات للأسر الفقيرة، عاد الأهالي إلى قطع الأشجار المثمرة في مناطق دوما وسقبا وعربين، ليؤمنوا الدفء لأسرهم المحاصرة.
وتقول مصادر رسمية سورية إن التحطيب الجائر وحرائق الغابات نالت من آلاف الدونمات في غابات الساحل السوري، وإن الغابات والمحميات الحراجية بسورية تعرصت لقطع جائر. فمحمية البلعاس في محافظة حماة تعرضت لقطع المئات من الأشجار الحرجية المعمرة، والتي يصل عمرها إلى مائة عام، إضافة إلى الغابات الحرجية الممتدة من منطقة تلكلخ وصولاً إلى محافظة طرطوس. وتقدر أعداد الأشجار التي تم قطعها في محافظة حماة ومنطقة تلكلخ بحوالي سبعة آلاف شجرة حرجية. وفي الحسكة، بلغ عدد الأشجار التي تعرّضت للقطع حوالي 7500 شجرة حرجية.