دخلت أوكرانيا في دورة عنف دامية جديدة، فتوسعت العمليات العسكرية باتجاه مدينة ماريوبول الاستراتيجية، التي تُمكِّن السيطرة عليها من فتح الطريق إلى القرم. وفيما تم تبادل الاتهامات بخرق الهدنة بين دونباس وكييف، تسعى الدبلوماسية الدولية إلى تبريد الجبهات والعودة إلى المفاوضات، ولكن بمشاركة واشنطن هذه المرة.
اشتعال جبهة ماريوبول
ليست المرة الأولى التي تشتعل فيها جبهة ماريوبول. ففي بدية سبتمبر/أيلول 2014 كان جيش نوفوروسيا قد باشر عمليات قتالية واسعة للهجوم على المدينة. وكان الهدف منها السيطرة تماماً على هذا الميناء على بحر آزوف والمعبر إلى شبه جزيرة القرم. إلا أن موسكو- لاعتبارات سياسية- أرغمت قيادة نوفوروسيا آنذاك على توقيع اتفاق الهدنة التي كانت في ذلك الحين لمصلحة كييف، لجهة حاجة الأخيرة إلى إعادة تجميع قواتها وتعبئتها. لكن الهدنة الهشة انهارت أخيراً، وعاد القتال إلى هذا المحور من جديد.
علماً بأن رئيس جمهورية دونيتسك، ألكسندر زاخارتشينكو، حمّل، يوم الرابع والعشرين من الشهر الحالي، الجيش الأوكراني مسؤولية التصعيد في ماريوبول، قائلا: "نحن حتى هذا اليوم لم نقم بعمليات نشطة على حدود ماريوبول، ولكن، بعد أن قررت كييف تحميلنا مسؤولية نيران غراد الخاطئة التي أطلقتها قواتها من منطقة برديانسك العائدة لها على الأحياء المدنية في ماريوبول، فإنني أعطيت أمراً بإسكات مواقع القوات الأوكرانية الواقعة إلى الشرق من ماريوبول".
وأفادت وكالة "يونيان" الأوكرانية بمقتل 29 مدنياً وإصابة 93 آخرين نتيجة قصف المدينة. فيما أكد زاخارتشينكو، وفقا لوكالة "ريا نوفوستي"، أن كييف هي التي فتحت هذه الجبهة، إذ استقدمت في الأيام الأخيرة قوات إلى ماريوبول وعمدت إلى إشعال هذه الجبهة لتخفيف الضغط عن جبهة المطار.
معارك متوقعة
كان واضحاً أن المعارك في جنوب شرق أوكرانيا على وشك أن تندلع على كافة الجبهات، منذرة بتطور درامي مأساوي. فما إن انتهى اجتماع وزراء خارجية مجموعة النورماندي في برلين إلى الاتفاق على سحب الأسلحة الثقيلة من جنوب شرق أوكرانيا، حتى نقلت وكالة "إنترفاكس" عن وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف قوله: "إذا تحقق تقدم في وقف إطلاق النار وسحبت الأسلحة، فإن قمة مجموعة النورماندي في أستانا حول أوكرانيا ستكون مطلوبة" في تشكيك واضح بإمكانية تطبيق ما تم الاتفاق عليه في برلين على الأرض الأوكرانية.
أمّا على الأرض، فلم يتأخر الرد الواقعي. فصباح اليوم التالي، تم الإعلان عن سقوط قذيفة على موقف باصات في مدينة دونيتسك أدت إلى مقتل 15 شخصاً. وقد جرى ذلك على خلفية الإعلان عن اضطرار القوات الأوكرانية إلى إخلاء مواقعها في مطار دونيتسك، تحت ضغط النيران، بعد معركة استمرت 242 يوماً.
وهكذا، فالعمليات القتالية بعد قرابة شهر من هدنة هشة، استؤنفت على طول خط المواجهة بين قوات دونباس وقوات كييف، في التاسع من يناير/كانون الثاني الحالي. مما أقلق روسيا التي يلوّح لها الغرب بمزيد من العقوبات حتى من خلال حديثه عن إمكانية تخفيفها المشروط.
وسرعان ما وجّه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين رسالة إلى نظيره الأوكراني بيترو بوروشينكو، يعبّر فيها عن قلقه. وقال بوتين في رسالته إن "الأحداث الأخيرة في جنوب شرق أوكرانيا المتعلقة بتجدد القصف على المناطق السكنية في دونيتسك ولوغانسك، تثير قلقنا العميق وتهدد عملية التسوية السلمية على أساس اتفاقات مينسك، التي تم التوصل إليها في 19 سبتمبر/أيلول 2014"، مقترحاً "أن يقوم الطرفان، القوات الأوكرانية والقوات الشعبية في دونباس، باتخاذ إجراءات عاجلة لوقف متبادل لإطلاق النار، وإلى سحب فوري للأسلحة من عيار ما فوق 100 ملم إلى المسافة المنصوص عليها في تفاهمات مينسك، انطلاقاً من خط التماس الفعلي، وفق الخارطة المرفقة"، مؤكداً استعداد بلاده "التعاون مع بعثة منظمة التعاون والأمن الأوروبي، لتنظيم مراقبة هذه الخطوات".
إلا أن رسالة بوتين بقيت من دون رد، شكلاً ومضموناً، وفقاً لمدير مكتب الكرملين الصحافي، ديمتري بيسكوف، الذي أسف لـ"رفض الجانب الأوكراني الخطة المقترحة، وعدم تقديمه أي مقترحات جوابية، بل هو، علاوة على ذلك، استأنف العمليات القتالية". وأضاف أن ذلك يجري على الرغم من أن بوروشينكو تلقّى رسالة بوتين صباح 16 يناير/كانون الثاني الحالي، "فيما نشهد في هذه الساعات تواصل القصف على دونيتسك والتدهور المطلق للوضع في جنوب شرق (أوكرانيا)".
بالتوازي مع ذلك، نقلت قناة "آر بي كا" التلفزيونية قول بوروشينكو، خلال خطاب حماسي ألقاه في ميدان الاستقلال في كييف يوم 18 من الشهر الحالي، أمام ما سمي بـ"مسيرة التضامن مع ضحايا الإرهاب"، أي بعد يومين من تلقيه رسالة بوتين: "لن نتخلى عن أي قطعة أرض أوكرانية، سوف نعيد دونباس، وسنبعث أوكرانيّة دونباس... سوف ننتصر، وسوف يحل السلام في أوكرانيا. وسوف يتم طرد المحتل من الأرض الأوكرانية".
وبالنتيجة، ففي العشرين من يناير/كانون الثاني الحالي بدأت الموجة الرابعة من التعبئة الأوكرانية، وتم الإعلان عن حملتي تعبئة أخريين، في أبريل/نيسان ويونيو/حزيران القادمين.
ووفقاً لموقع "زد إن.يوا"، أحال الرئيس الأوكراني، يوم الرابع عشر من الشهر الحالي، إلى برلمان البلاد مشروع قانون للمصادقة على "التعبئة الجزئية". وفي اليوم التالي صادق البرلمان على مرسوم الرئيس، ومدّد سقف عمر المشمولين بالتعبئة من سن 25 إلى 27 عاماً.
إلى ذلك، ضاعفت القوات الأوكرانية، في الثامن عشر من الشهر الحالي، قصفها لدونيتسك، واعترفت كييف رسمياً ببدء عملية عسكرية لتحرير المطار، إلا أنها اضطرت تحت ضغط المقاومة إلى الانسحاب من المطار كلياً بعد ذلك.
وقد اتهم زاخارتشينكو، كييف بخرق الهدنة وبدء الهجوم على دونيتسك. ونقلت وكالة "ريا نوفوستي" عن زاخارتشينكو قوله: "لن نقوم بعد اليوم بمحاولة الحديث عن هدنة. كييف الآن لا تفهم أننا نستطيع الهجوم من ثلاثة اتجاهات في وقت واحد". وبخصوص خطة عملياتهم القتالية أضاف: "سوف نضرب حتى نصل إلى حدود منطقة دونيتسك".
ويعزو مراقبون تصريحات زاخارتسينكو النارية إلى ردة فعله على القصف المتواصل الذي تتعرض له دونيتسك من قِبل القوات الأوكرانية، فقد قُتل خلال الأيام التسعة الأخيرة 260 شخصاً في دونيتسك، وكانت الشعرة التي قصمت ظهر البعير القذيفة التي أصابت موقف الباصات في المدينة وقتلت 15 مدنياً. حينها قال زاخارتشينكو: "بعد هذه المأساة، سوف أعطي أمراً بعدم أخذ أسرى بعد اليوم، لا نحتاج إلى تبادل أسرى".
وفي وقت تشتد فيه المعارك، فشل مجلس الأمن الدولي في الاتفاق على نص وثيقة بخصوص إدانة قصف مدينة ماريوبول الأوكرانية، وفق ما أعلنت ممثلية روسيا الدائمة في المنظمة الدولية. وأرجعت السبب إلى إصرار بريطانيا على إدانة بعض تصريحات قادة اللجان الشعبية بصورة منفصلة.
وبالتوازي مع ذلك، يصرّ الرئيس الأوكراني على إجراء مباحثات بحضور الولايات المتحدة، وفق ما يسمى صيغة جنيف (الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وأوكرانيا وروسيا) لمناقشة قصف ماريوبول.