جاءت الحداثة على خلفية المدّ الاستعماري على تخوم العالم المختلفة، ومنها العالم العربي. ووسمت تجربة الشعوب المستعمَرة والمستعمِرة بميسمها، ممّا جعل التمييز بين عنت الاستعمار وتفاؤل الحداثة صعباً، وتقديم الحداثة على أنّها تحرّرية ومنفتحة أساساً برهاناً على تناقضٍ تاريخيٍ ما زال ممجوجاً في الوعي الجمعي لأبناء العالم المُستعمَر سابقاً. هذا التلازم بين تجربتي الاستعمار والحداثة هو أساس عقدة الحداثة في ثقافات العالم المختلفة التي لم تنتج الحداثة أصلاً، ومنها الثقافة العربية المعاصرة.
ثقافات العالم واجهت عقدتها بطرق مختلفة واجترحت لها مقارباتٍ مختلفة راوحت بين تقبُّل الأولوية الأوروبية من دون كثير لغط والانطلاق في ركب الحداثة، كما فعلت بعض دول جنوب شرق آسيا الصناعية، أو التفتيش عن بدايات حداثية بديلة تنبع من نضالات سياسية وثقافية معاصرة، كما فعلت الصين وفيتنام وكوبا إلى حد ما، بالإضافة إلى بعض الدول المتاخمة لأوروبا كتركيا واليونان، وكما تفعل اليوم غالبية دول أميركا اللاتينية التي استعادت أنظمتها السياسية المنتخبة وتخلّصت من أنظمة العسكر والتفتت إلى شحذ مساهماتها في العولمة.
ولكن الثقافة العربية المعاصرة، على عكس غيرها من ثقافات العالم المُستعمَر سابقاً، ما زالت تفتّش عن حل لعلاقتها المعقدة مع الحداثة، على الرغم من مضي أكثر من قرن ونصف على انطلاق الدعوة للحاق بركب الثقافة العالمية في العالم العربي على أيدي المجدّدين الأوائل، من أمثال الشيخ حسن العطار وبطرس البستاني ورفاعة الطهطاوي وغيرهم، والتي فُهمت حينها على أنها ثقافة "عواصم النور" الأوروبية، وعلى الرغم من تحرُّر غالبية الدول العربية من الاستعمار المباشر خلال الربع الثالث من القرن العشرين، وعلى الرغم من ظهور ثقافات وطنية عربية خلّاقة ومعبّرة وفاعلة على كافّة مساحة العالم العربي غيّرت من منحى ومعنى الحداثة نفسها في محيطها العربي.
بل ربما أصبح الأمر أكثر حدّية الآن مع صعود تيارات عقائدية إسلامية ترفض الحداثة من أساسها، بل وحتى تناضل ضدّها بعنف غير مسبوق وحمية لا تفتر على أساس أنها "ضد الدين، وضد التراث، وضد القديم، وأنها تحرُّرٌ مطلق من القيود الضابطة من دين أو خلق أو حتى عرف اجتماعي قبلته الأذواق السليمة".
هذا الاتجاه فرض نفسه بقوّة على الواقع الاجتماعي والسياسي العربي في السنوات الثلاثين الأخيرة، ولو أن تأثيره الثقافي ما زال محدوداً ومحدّداً. ومع أن المثقّفين العرب واعون تماماً لحدية وخطورة هذا التحدي الذي تطرحه الجماعات الإسلامية المسيّسة، فهم بغالبيتهم ما زالوا يراوحون مكانهم في التعامل مع الحداثة، وما زالوا يقاربونها في نقاشاتهم وتنظيراتهم وكتاباتهم كما قاربتها الأجيال السابقة، على الرغم من تغيُّر المحيط السياسي والاجتماعي تغيّراً شاملاً، وعلى الرغم من تطوُّر الأدوات المعرفية تطوُّراً كبيراً.
وعليه، إذا ما أجرينا مسحاً شاملاً للموقف من الحداثة اليوم بين المثقّفين العرب، لوجدنا ثلاث وتائر ما زالت فاعلة في المحيطين الثقافي والاجتماعي العربيَّين من دون كبير تغيير منذ تبلورها الأول في بداية القرن العشرين. هذه المقاربات الثلاث هي الحداثية والتاريخانية والتوفيقية؛ فالحداثيون العرب يصرّون على أن ثقافتهم ابنة عصرها الحاضر وإسقاطاته المعرفية والسياسية والاجتماعية والجغرافية، وهي بالتالي حداثية على الرغم من علاقتها المضطربة بثقافة هذا العصر العولمي التي أُنتجت بمجملها خارج العالم العربي وفُرض البعض منها فرضاً على متلقّيها العرب، من خلال احتكاك غير متكافئ بالغرب الاستعماري.
أمّا التاريخانيون العرب، والمستشرقون الغربيّون بعمومهم، فيرون أنّ الثقافة العربية المعاصرة هي نتاج تراثها الغني الذي انقطع عطاؤه مع عصر الانحطاط (غير المحدّدة بدايته ولو أنه عموماً يشمل كل العصور التي كان فيها حكّام العرب غير عرب)، وهو الآن عائدٌ إلى صحوة تصل ما انقطع وتزيل من الساحة المعاصرة شوائب الانحطاط.
ويزايد عليهم في الانتماء لهذه الصحوة اليوم السلفيون الإسلاميون الذين يرون في التراث الديني، الذي أعيد إحياؤه بطريقة انتقائية ومتعالية، إطاراً كافياً ووافياً لثقافتهم المعاصرة ويرفضون أي تعاط فكري مع الحداثة، ولو أنهم يستعملون أدواتها في كل ما يفعلون ويعيشون في ظلّ أنظمتها السياسية وسياقاتها التكنولوجية والاقتصادية والإعلامية، بل وحتى الاجتماعية والثقافية بوعي منهم بذلك أو بدونه.
أمّا التوفيقيون، فيرون أن ثقافتهم ما هي إلّا إحياءٌ للتراث نفسه الذي لم ينقطع تماماً وإن خفت بهاؤه في القرنين الثامن والتاسع عشر، حتى جاءت النهضة لتبني عليه من منظور معاصر وبأدوات معرفية حديثة اكتسبها منظّروها من خلال التعامل الفعّال مع الغرب الحديث، ومن خلال تطويع بعض من أدواته المعرفية لمتطلّبات ثقافتهم الخاصة.
أثارت هذه المواقف الثلاثة - وما زالت تثير - إشكاليات فكرية حادّة نابعة من الأبعاد التاريخية والسياسية والأيديولوجية التي تؤطّرها. الخيار الحداثي تابعٌ للغرب ومتّهَم بالفوقية على مجتمعه والارتباط بالاستعمارَين القديم والجديد. الخيار التراثي يدير وجهه عن الحاضر ويوليه للماضي ويتصرّف في تعامله مع الثقافة بسذاجة شديدة لا يمكن فهمها في ظل تعولم الدنيا وانتشار الأفكار والتقنيات ووسائل الإنتاج والمعرفة واللهو الحديثة وغزوها لكل مناحي الحياة.
أما الخيار الثالث (ومعذرة هنا من كل من استعمل عبارة الخيار الثالث المشهورة عربياً في مجالات السياسة والأيديولوجيا الساذجة) فهو في أحسن الأحوال انتقائي ومتناقض، إذ إنه بكل بساطة يحاول تطبيق بعض مظاهر الحداثة على الأرضية المعرفية العربية ما قبل الحداثية ورفض بعضها الآخر بحجة معارضتها لأخلاقنا وتراثنا وهويتنا، من دون إدراك عبثية التوفيق بين المنحيين المعرفيين المختلفين تاريخاً ومنهجاً وعقيدةً.
هناك طبعاً خيارات أخرى غير هذه المواقف الثلاثة، خيارات أكثر جرأة وأعمق فكراً وأوعى بالتاريخ والواقع والمستقبل. وهي خيارات صعبة، تستلزم تنقيباً تاريخياً ونقدياً ووقفة محاسبة مع الذات وعلاقتها بالآخر، خصوصاً الآخر الغربي الذي تقاطعت ثقافاته وسياساته مع ثقافات العرب وسياساتهم منذ ما قبل المسيحية وحتى اليوم، وخلّفت آثاراً ما زالت تدمغ الحاضر بطابعها.
هذه الخيارات تتطلّب أيضاً مراجعة منحى العلاقة مع الذات والتاريخ والآخر الغربي وتعريف شرعيتها وامتداداتها الثقافية والمعرفية والسعي لتغييرها كبداية لكسر مزدوجة الحداثة والتراث التعارضية والتعاطي معهما سويةً كمكوّنين متكاملين، ولكن متداخلين تاريخياً في تركيبة أيّ ثقافة معاصرة متوازنة. هذه الخيارات بعمومها ممنوعة في الفكر العربي المعاصر، ولا يجرؤ على طرحها سوى بعض المفكّرين العرب الجريئين الذين عملوا أو يعملون خارج إطار الثقافة السائدة.
أما غالبية المعنيّين بالشأن الثقافي فما زالوا يحاولون إيجاد موقع وسط لعملهم بين الحداثة والتراث، على الرغم من تداعي هذه المنظومة الازدواجية منذ أكثر من ثلاثة عقود تحت ثقل تناقضاتها السياسية والاجتماعية والثقافية وبتواطؤ مباشر بين السلطات الاستعمارية والنيو-استعمارية والمجموعات الحاكمة التقليدية والطغاة العسكريين والمغامرين السياسيين والمزاودين الأصوليين، وبمؤازرة تامّة من العقلية القبلية التي ما زالت مسيطرة على تفكير غالبية المجموعات الحاكمة العربية وشعوبها.
تتّضح آثار هذا التداعي اليوم، خصوصاً بعد فشل معظم ثورات الربيع العربي في إحداث التغيير السياسي والمجتمعي الذي قامت أساساً لأجله، من خلال تسارع تفتُّق النسيج الاجتماعي والسياسي والمعرفي في العالم العربي وتغرب الكثير من أفضل أبنائه وبناته عن واقعهم، إما بالتقوقع على النفس واجترار الخيبة بأنفسهم ومجتمعاتهم، أو بالهجرة إلى كافّة أصقاع العالم والتفتيش عن حياة أفضل وحرية أكبر ممّا هو متاح لهم في بلادهم، أو بالعودة إلى الماضي كمصدر فخرٍ وموئل انتماءٍ خالٍ من تبعات الحاضر الثقيلة من تخلف وفقر واستبداد وارتهان بإرادة الغرب المسيطر وعجز عن مقاومته أو مصالحته أو التناغم مع إيقاع تطوره المستمر.
وهم بذلك يحرمون مجتمعاتهم من خيرة عصارتها الفكرية والعلمية والإنتاجية، ممّا يؤدي إلى تنامي التخلّف والتوتر والتخبّط الفكري والاجتماعي في دورة تراجيدية بتّارة تحتاج لجهود جبّارة لوقف انحدارها الذي يتسارع باستمرار بينما الأنظمة لاهية أو مستفيدة والعدو ملؤه الرضا.
* مؤرّخ معماري سوري وأستاذ كرسي الآغا خان للعمارة الإسلامية في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا