في ندوةٍ عن الفنّ المعاصر بمدينة أصيلة المغربية، ظلّ سؤال الفنّ العربي المعاصر أشبه بالغائب. تحدّث أغلب المشاركين عن كلّ شيء إلا عن معاصرة الفنّ أو حداثته. وكادت الندوة أن تكون مسبارًا لفقر الدمّ الجوهريّ الذي يعيشه النقد الفني والجمالي في بلداننا. اكتشفتُ أن ما كان يُكتب في نهايات القرن الماضي عن الحركة التشكيليّة العربيّة، أهمّ كمًّا وأعمق كيفًا. والراجح أن هذه الأهمية لا تتأتّى فقط من جديّة الحركة التشكيلية في تلك المرحلة، ولكن أيضًا وأساسًا من وضوح تجربتها وانفتاحها وآفاق تطوّرها. فما الذي حدث ويحدث إذن؟ ما العدوى التي أصابتنا في وعينا البصري؟
في بداية تسعينيات القرن الماضي في فرنسا، وتحديدًا على صفحات مجلة Esprit الشهيرة بدأ صراعٌ نقدي عن هويّة الفنّ المعاصر وطبيعته، ومواضيعه، وممارساته. وكال النقّاد المعروفون آنذاك، كلّ أنواع التعنيف لما يُعرف اليوم بالفنّ المعاصر المعتمِد على ممارسات تداولية تتجاوز اللوحة. استمرّ هذا الصراع إلى يومنا هذا، وأنتج العديد من المؤلّفات التي صارت مشهورةً من قبيل "سراب الفنّ المعاصِر" و"الفنّ في حالته الغازية" وغيرها. ومع ذلك لم ينفك هذا الفنّ يتبلّور ويتطوّر ويدخل المتاحف ويتجدّد وتتّسع رقعته وتحولاته. وفي افتتاح الموسم الثقافي الماضي في الدوحة، اندلع صراعٌ حول منحوتة للفنان الجزائري المعاصر عادل عبد الصمد، نُصبت في الكورنيش، وتمثّل ضربة اللاعب زين الدين زيدان المشهورة في كأس العالم. ثمّ أُعيدت المنحوتة إلى الصندوق الذي أُخرجت منه.
يُظهر المثالان همومًا متعارضة بين ما يمورُ به الغرب حول الفنّ المعاصِر، وما يُحاط به الفنّ عمومًا في العالم العربي. لسنا إذن في العالميْن على الإيقاع الزمني والتاريخي نفسه، على الأقل في ما يخصّ الإنتاج والتلقّي. بل إن هموم الفنّ وقضاياه وطرق تلقّيه في العالم العربي، -رغم ارتباطها بقضايا الفنّ المعاصر في العالم- تجرّنا إلى مساءلة جوانب وسمات خاصّة، لا من ناحية موقعها الجغرافي، بل من ناحية المنطق الذي تنبثق عنه.
المثالان مدخلان أيضًا لمقاربة طبيعة حداثتنا البصريّة والفنّية وطبيعة "معاصرتنا". فالفنّ المعاصر في الغرب، جاء وليد الثورة البصرية التي بدأتها السينما ثم التلفزيون ثم الرقميّات. وهو تطوّر جاء تعبيرًا حثيثًا عما سمّاه مشيل فوكو في السبعينيات بـ "علاقة الكلمات بالأشياء" أي الفكري بالمحسوس. والانقطاع الذي يقيمه هو بشكلٍ ما، انقطاع إبستيمولوجي، لأن الانقطاعات تولّد الثورات والتحولات التاريخية، سواءٌ أكانت في المجال السياسي أم الثقافي. من ثمّ، فإن صراع الحديث والمعاصر في الفنّ، هو أيضّا صراع عصر الصورة مع عصر البصريّ بتداخلاته وتفاعلاته.
وإذا ما نحن توقفنا لحظةً ونظرنا لأنفسنا في هذا العالم الشتات الذي نسميه عالمًا عربيًا، وسعينا إلى فهم ما جرى ويجري، فإننا سنجد أنفسنا بشكلٍ أو بآخر، خارج الانقطاعات التي تحدث، وفي الآن نفسه على هامش التحوّلات التي يعيشها الغرب في انتقاله من الصورة إلى البصري. ليس هذا الهامش قدرًا سلبيًا بقدر ما هو فضاء يعيش تحولاته الخاصة وفقًا لإيقاعات زمنية وتاريخية متخلّخلة، لا تخضع بالضرورة لمفهوم التعاقب.
ولا أدلّ على ذلك، من أن مفهوم الحداثة كما تبلوّر في الثقافة العربية في العقود الثلاثة الأخيرة، لم يعد فقط شعار مرحلة تاريخية، بل غدا أشبه بالمفهوم-المفتاح، للدخول الفكري في العالمية. إنه مفهوم تجاوزَ التحقيب الزمني، وصار يشمل مصير الإنسان العربي في علاقته بمفهوم الحضارة، وما تعنيه من ديمقراطية وحقوق أساسيّة. بل لا أدلّ على ذلك من أن مفهوم الفنّ في العالم العربي، لم يكن بحاجة لأن يُربط بصفة الحديث، لأنه إحدى التعبيرات الأكثر قوّة في هذه الحداثة في مفهومها الشاسع. إنها الحداثة التي ترعرعت في عصر يتمحور حول الصورة، وفي الآن نفسه لا يزال يتواصل بقوّة الكلمة واللغة. بل إن الحداثة البصرية في العالم العربي، لم تعد سوى ظلّ باهتٍ للحداثة المتمحورة على الفكر واللغة والتواصلات التقليدية. مما يجعلنا بشكل أو بآخر مرتهنين بمفهوم حداثي ضيق للحداثة.
ربما لهذا السبب لا يجد الناقد العربي في التجربة الفنية المعاصرة موضعًا يمسكها منه. إنه برومانسيته المعهودة ومثاليته الموروثة، يحكم على الفنّ البصري الجديد بمنطق اللوحة، وعلى الفنّ عمومًا بمنطق حكمه على النصّ الأدبي. بل إن ما لا يستسيغه في الفنّ هو جانبه التجاري التداولي، فنراه يسعى جاهدًا لتخليصه من أدران السوق وقصديّة التملّك. والحال أن الفنّ التشكيلي والبصري عمومًا، والمعاصر منه خاصّةً، يحتاج أكثر من اللوحة، إلى فضاء الحرية والتمويل وتسهيل التداول، رغم ما يقدّمه له فضاء التواصل الرقمي من إمكانات.
لم نكتب بعد تاريخ فنّنا الحديث، ولم نمسك بعد بمفاصله، ولم نستوعب بعد مسارات تطوّره، وجدنا أنفسنا ندخل مجالات متسارعة من التطور، صار فيه التجهيز (المنشَأَة) Installation بتفاعلاتِه مع الفراغ ومسرحتِه للأشياء والمكان، وكذلك عروض الأداء (المنجَزَة) Performance بما تحمله من تحويل للجسد الشخصي وللآخر، يفرضان تعاملًا جديدًا مع الفنون البصرية الأخرى ومع اللغة، بل يدعواننا إلى إعادة النظر في تصوّرنا للفنّ.
المنشَأة والمنجَزَة أقرب إلينا بصريًّا ووجوديًّا من اللوحة. وفوضاهما الإبداعية أقرب إلى فوضى الترتيب الشعبي للفضاء في مدنِنا العتيقةِ وقرانا، كما إلى حركاتنا الإيمائية اليومية في التواصل. وهي من ثمّ، أقرب سبيلًا إلى معاصرتنا الممكنة، وأبعدها عن حداثتنا المعطوبة.
في بداية تسعينيات القرن الماضي في فرنسا، وتحديدًا على صفحات مجلة Esprit الشهيرة بدأ صراعٌ نقدي عن هويّة الفنّ المعاصر وطبيعته، ومواضيعه، وممارساته. وكال النقّاد المعروفون آنذاك، كلّ أنواع التعنيف لما يُعرف اليوم بالفنّ المعاصر المعتمِد على ممارسات تداولية تتجاوز اللوحة. استمرّ هذا الصراع إلى يومنا هذا، وأنتج العديد من المؤلّفات التي صارت مشهورةً من قبيل "سراب الفنّ المعاصِر" و"الفنّ في حالته الغازية" وغيرها. ومع ذلك لم ينفك هذا الفنّ يتبلّور ويتطوّر ويدخل المتاحف ويتجدّد وتتّسع رقعته وتحولاته. وفي افتتاح الموسم الثقافي الماضي في الدوحة، اندلع صراعٌ حول منحوتة للفنان الجزائري المعاصر عادل عبد الصمد، نُصبت في الكورنيش، وتمثّل ضربة اللاعب زين الدين زيدان المشهورة في كأس العالم. ثمّ أُعيدت المنحوتة إلى الصندوق الذي أُخرجت منه.
يُظهر المثالان همومًا متعارضة بين ما يمورُ به الغرب حول الفنّ المعاصِر، وما يُحاط به الفنّ عمومًا في العالم العربي. لسنا إذن في العالميْن على الإيقاع الزمني والتاريخي نفسه، على الأقل في ما يخصّ الإنتاج والتلقّي. بل إن هموم الفنّ وقضاياه وطرق تلقّيه في العالم العربي، -رغم ارتباطها بقضايا الفنّ المعاصر في العالم- تجرّنا إلى مساءلة جوانب وسمات خاصّة، لا من ناحية موقعها الجغرافي، بل من ناحية المنطق الذي تنبثق عنه.
المثالان مدخلان أيضًا لمقاربة طبيعة حداثتنا البصريّة والفنّية وطبيعة "معاصرتنا". فالفنّ المعاصر في الغرب، جاء وليد الثورة البصرية التي بدأتها السينما ثم التلفزيون ثم الرقميّات. وهو تطوّر جاء تعبيرًا حثيثًا عما سمّاه مشيل فوكو في السبعينيات بـ "علاقة الكلمات بالأشياء" أي الفكري بالمحسوس. والانقطاع الذي يقيمه هو بشكلٍ ما، انقطاع إبستيمولوجي، لأن الانقطاعات تولّد الثورات والتحولات التاريخية، سواءٌ أكانت في المجال السياسي أم الثقافي. من ثمّ، فإن صراع الحديث والمعاصر في الفنّ، هو أيضّا صراع عصر الصورة مع عصر البصريّ بتداخلاته وتفاعلاته.
وإذا ما نحن توقفنا لحظةً ونظرنا لأنفسنا في هذا العالم الشتات الذي نسميه عالمًا عربيًا، وسعينا إلى فهم ما جرى ويجري، فإننا سنجد أنفسنا بشكلٍ أو بآخر، خارج الانقطاعات التي تحدث، وفي الآن نفسه على هامش التحوّلات التي يعيشها الغرب في انتقاله من الصورة إلى البصري. ليس هذا الهامش قدرًا سلبيًا بقدر ما هو فضاء يعيش تحولاته الخاصة وفقًا لإيقاعات زمنية وتاريخية متخلّخلة، لا تخضع بالضرورة لمفهوم التعاقب.
ولا أدلّ على ذلك، من أن مفهوم الحداثة كما تبلوّر في الثقافة العربية في العقود الثلاثة الأخيرة، لم يعد فقط شعار مرحلة تاريخية، بل غدا أشبه بالمفهوم-المفتاح، للدخول الفكري في العالمية. إنه مفهوم تجاوزَ التحقيب الزمني، وصار يشمل مصير الإنسان العربي في علاقته بمفهوم الحضارة، وما تعنيه من ديمقراطية وحقوق أساسيّة. بل لا أدلّ على ذلك من أن مفهوم الفنّ في العالم العربي، لم يكن بحاجة لأن يُربط بصفة الحديث، لأنه إحدى التعبيرات الأكثر قوّة في هذه الحداثة في مفهومها الشاسع. إنها الحداثة التي ترعرعت في عصر يتمحور حول الصورة، وفي الآن نفسه لا يزال يتواصل بقوّة الكلمة واللغة. بل إن الحداثة البصرية في العالم العربي، لم تعد سوى ظلّ باهتٍ للحداثة المتمحورة على الفكر واللغة والتواصلات التقليدية. مما يجعلنا بشكل أو بآخر مرتهنين بمفهوم حداثي ضيق للحداثة.
ربما لهذا السبب لا يجد الناقد العربي في التجربة الفنية المعاصرة موضعًا يمسكها منه. إنه برومانسيته المعهودة ومثاليته الموروثة، يحكم على الفنّ البصري الجديد بمنطق اللوحة، وعلى الفنّ عمومًا بمنطق حكمه على النصّ الأدبي. بل إن ما لا يستسيغه في الفنّ هو جانبه التجاري التداولي، فنراه يسعى جاهدًا لتخليصه من أدران السوق وقصديّة التملّك. والحال أن الفنّ التشكيلي والبصري عمومًا، والمعاصر منه خاصّةً، يحتاج أكثر من اللوحة، إلى فضاء الحرية والتمويل وتسهيل التداول، رغم ما يقدّمه له فضاء التواصل الرقمي من إمكانات.
لم نكتب بعد تاريخ فنّنا الحديث، ولم نمسك بعد بمفاصله، ولم نستوعب بعد مسارات تطوّره، وجدنا أنفسنا ندخل مجالات متسارعة من التطور، صار فيه التجهيز (المنشَأَة) Installation بتفاعلاتِه مع الفراغ ومسرحتِه للأشياء والمكان، وكذلك عروض الأداء (المنجَزَة) Performance بما تحمله من تحويل للجسد الشخصي وللآخر، يفرضان تعاملًا جديدًا مع الفنون البصرية الأخرى ومع اللغة، بل يدعواننا إلى إعادة النظر في تصوّرنا للفنّ.
المنشَأة والمنجَزَة أقرب إلينا بصريًّا ووجوديًّا من اللوحة. وفوضاهما الإبداعية أقرب إلى فوضى الترتيب الشعبي للفضاء في مدنِنا العتيقةِ وقرانا، كما إلى حركاتنا الإيمائية اليومية في التواصل. وهي من ثمّ، أقرب سبيلًا إلى معاصرتنا الممكنة، وأبعدها عن حداثتنا المعطوبة.