الحب لونه أبيض!

14 فبراير 2019
+ الخط -
تبقى الجاذبية نحو الحب سرُّها الغموض، ولو قطعنا شوطاً كبيراً من التجارب في الحياة للوصول إليه، فإذا ما أمسكنا به يوماً ثم مات بأيدينا حينها سنتمنى لو أنه طير يحلّق بالقُرب كي نشتهيه، اليوم وعلى مقربة من عيد الحب (الفالنتاين) - كما يسمونه - تدور عجلة الأسئلة بنهم: هل يعي المحتفلون حقيقة الحب قبل أن يحتفلوا به، أم أنه سبيل للاحتفاء وحجة للبس ثوب الفرحة الحمراء ليس إلا؟!

ما زال الفالنتاين حتى اللحظة ذاك اليوم المرشوش بالحب واللون الأحمر، فالجميع في الشوارع وحتى واجهات المحالّ يكتسي باللون الأحمر، ويصبح اليوم بأكمله فرصة ذهبية للتجّار لاستخدام الحب واجهةً لطلب الرزق، وللعشاق أيضاً لطلب المحبة والسعادة وخاصّة في بلدان ما زالت تنام على طقطقة البنادق وتحلم دائماً بأن تصحو على هديل الحمام، وربما هذا ما يُفسر التعطش الشديد للاحتفال بالفالنتاين في بلدان واقعة في قبضة الحرب، أكثر من تلك التي ترى الحرب من خلف شاشة الأخبار فقط.

ففي بلاد كاليمن ومدنه المغمورة بشظايا الحرب، لم يبق للحب معنى سوى مشهد واحد، حتى وإن أنجبت الحياة جيلاً يحب فلن يرى الحب إلا من أمام هذه النافذة، مساحة كبيرة بعيداً لكنها تصغر رويداً رويداً كلما اقتربنا منها، قد تجدها في المطارات.. في المستشفيات.. على عتبات المقابر، نافذة بحجم اللون الأبيض الذي ننشده، وهذا ما لمسته في وجوه الأرامل وكل من رأيتهم على أسرّة المستشفيات ومقاعد الانتظار في صالات المغادرة..


شيءٌ ما في أحاديثهم عن الحب كان يُفسر لي حقيقته المخفية قسراً، التي طالما أخفتها الأجيال السابقة عنا، فكانت تكتفي بإجابة "كلام كبار" عن سؤال "ما هو الحب؟"، في حين أن الأجيال الحاضرة وإن اختلفت ثقافاتها في بلداننا العربية عنها في الدول الأجنبية، فستجد أنها قد أخذت إجابة أخرى ليست أكثر وضوحاً من السابقة بل مغلوطة إن صح القول، فلو جرّبت سؤال طفل في الثامنة من عمره أو مراهق أو حتى يافع في بلد عربي ذات السؤال فسيصلك التعريف بأن "الحب هو الزواج"، أو سيكتفي برسم قلب ينتصفه سهم وكأن الحب كائن، إما حبيس غرف النوم وهمسات المتزوجين، وإما رسمة في جوف كرّاسة مغلقة!

ربما قد تختلف التعابير اللفظية في إجاباتهم ولكنها ستؤدي إلى ذات النفق، في المقابل ستشاهد المفارقة من خلال مقطع فيديو لأطفال في مساحة جغرافية أخرى، تقبع خارج خريطة وتربية العرب، يعرّفون فيه مفهوم الحب وستستمع ما يدهشك وربما ما يُحزنك!

فالأول عرّفه بأن تسامح شخصاً ما على ذنبٍ كبير اقترفه بحقك، وثانٍ قال بأنه الشعور بالمسؤولية، وثالث يُتمتم قائلاً بأن تجد من يفهمك، والرابع يفسره بأنه القيام بأشياء لا نحبها لأجل شخص ما..

وستشهق متعجباً حين تسمع طفلاً يخبرك بأن الحب هو التواصل البصري الكبير بينك وبين شخص آخر، كل هذه الحقائق التي وصل إليها الأطفال سريعاً لم تكن وليدة الكتب المصوّرة أو حتى مشاهد الكرتون التي يتابعونها أمام شاشة التلفاز، ولكنها ترجمة حرفية لما يرونه ويسمعونه في البيت والشارع والمدرسة، فيتربون عليها وتكبر معهم. حتى حينما سألوهم عن حقيقة الفالنتاين وكيف يعبّر المرء عن حبه للآخرين كانت الإجابات شاهقة، فالجميع أكد أنّ الأغلبية تتبادل الهدايا والشوكولاتة والورد الأحمر، ولكن الأفضل يبقى في الاختلاف، ولي أن أغرق في الدهشة حينما شاهدتُ طفلاً يخبرنا بأنه في عيد الحب يجب أن تتشارك مع الآخرين الأشياء الجميلة وتكون لطيفاً، أو أن تقدر أفعال الآخرين الجميلة مهما كان حجمها، فالأشياء الصغيرة هي التي تُظهِر الحب.

وكأن الحب، على حد تعابيرهم، هو كل الأشياء البسيطة الجميلة التي تكون دائماً على بُعد التفاتة واحدة نحو الحياة من حولنا، ولهذا السبب كانت الحياة في بلداننا المصبوبة احمراراً هي ما جعلنا نركز ونثق بأن الحب أحمر، ونتناسى جوهر حقيقته التي تحدث عنها أولئك الأطفال والتي كانت العكس تماماً، فالحب لونه أبيض وكل المفاهيم التي تندرج تحت عباءة الحب الفضفاضة ليست إلا بيضاء، ولا تمتّ للأحمر المتفشي في عيد الحب بشيء.

إذاً نحن بحاجة أولاً إلى تصحيح نظرة الحب الحمراء، ثم لنستوعب ونُعبّر عن الحب كيفما شئنا، فلو تعمقنا قليلاً في أي مفهوم وصفة تمتّ للحب بصلة، فلن نجدها إلا سلاماً في سلام، والسلام لونه أبيض، فلمَ نصبغه بالأحمر!

بلا شك أننا أدركنا مؤخراً حقيقة اللون الأحمر، وشبعنا في ثلاث سنوات مضت كانت مخضّبة بلون الحرب على الأرض وعلى شريط الأخبار، ولكن حقيقته غابت في يوم الفالنتاين. كما أدركنا أيضاً أننا بحاجة ماسّة إلى غرس مفهوم الحب، بعيداً عن لون القلب الأحمر النازف بسهمين، وسلسلة الألغاز التي تناقلتها الأجيال حتى سمعناها يوماً من أفواه الأطفال في الخارج وصدّقتها تجاربنا المريرة، الحب الذي يربي جيلاً قادراً على العطاء حتى في أسوأ الظروف.. جيلاً يحب حتى يهيمن السلام على النفس والوطن.

كما أننا بحاجة كثيراً إلى التوقف عن إشباع الحب ضرباً طوال العام، والاحتفاء به يوماً واحداً فقط، فهذا بحدّ ذاته لن يغرس في أذهان أطفالنا سوى أن الحب 24 ساعة فقط، وبعد ذلك فليعد إلى زنزانته المُظلمة.

ولأنّ الحب هو السعادة والتفاهم والدفء والعطاء والنقاء فلن يكون إلا سلاماً، والسلام لونه أبيض.
10239013-1BB8-4CF7-B719-E44FB6033BA4
أحلام المقالح

مواليد اليمن - تعز... كاتبة صحفية وقاصة، لها عدة مقالات وتقارير مترجمة، منشورة في صحف محلية وعربية ولها عملان أدبيان: كتاب "ومرآة عمياء"، ورواية "طيرمانة".