الحالة المحيّرة لسمير أمين

30 يونيو 2017
+ الخط -
كانت مسألة الموقف من الأنظمة العسكرية الوطنية هي موضوع الجدل الأهم داخل الحركة الشيوعية العربية إبان حقبة التحرر الوطني. انقسمت الحركة الشيوعية آنذاك في معظم البلدان العربية بين جناحين، يرى أحدهما ضرورة التحالف مع تلك الأنظمة بوصفها أنظمة رأسمالية وطنية معادية للامبريالية تنجز مهمة التحرر الوطني تمهيداً للتحوّل نحو الاشتراكية. بينما ارتأى جناح آخر أن تلك الأنظمة البرجوازية إنّما تعرقل مهمّة الطبقة العاملة للتحوّل نحو الاشتراكية بادّعاء عدائها للاستعمار وإجراءاتها الاشتراكية السطحيّة.

في العراق مثلاً، كما يروي المؤرّخ عصام خفاجي، ورغم تحالفه مبدئياً مع نظام عبد الكريم القاسم، انقسم الحزب الشيوعي العراقي بعد انقلاب البعث عام 1963 بين تنظيميْن، رأى أحدهما، وقد أطلق على نفسه "القيادة المركزية"، أنّ التحالف مع القاسم ذي الميول الديكتاتورية كان خطأ أدّى إلى الهزيمة أمام البعثيين رغم ضعفهم. بينما ارتأت "اللجنة المركزية" للحزب أن التحالف مع القاسم بما تمتّع به من كاريزما كان وراء جماهيرية الحزب في ذلك الوقت.

في لبنان كذلك، كان الجدل أكثر حدة بحكم البنية الطائفية للبنان والدور السوري الملتبس. كتب غسان الرفاعي مثلاً هجوماً مباشراً على محسن إبراهيم ومجموعته التي انتقدت التحالف مع النظام السوري. كتاب الرفاعي "اليسار الحقيقي واليسار المغامر"، الذي نشره على عادته باسم مستعار هو: يساري لبناني، يعبّر عن ذلك الجدل بوضوح. وبسبب من الاستقلالية التي تمتّع بها الحزب تحت قيادة جورج حاوي بعد المؤتمر الثاني، تردّد الحزب كثيراً بين السوريين وبين الفلسطينيين. تحالف مع السوريين أحياناً ضد الفاشيين اللبنانيين والمحتل الصهيوني. وعاد فحارب ذيلهم اللبناني، حركة أمل، في بيروت لمواجهة السياسة الطائفية للنظام السوري؛ قبل أن يعمل النظام السوري على تصفية كوادره.

كان هذا الجدل ذا جذور أعمق حتّى من الحالة العربية. انقسم الشيوعيون الروس بين بلاشفة ومناشفة، ثم بين ستالينيين وتروتسكيين، حول المسألة نفسها تقريباً بصيغ مختلفة. وهكذا كان الحال في أزمات الحزب الديمقراطي الاشتراكي الألماني والحزب الاشتراكي الإيطالي إبان الحرب الأوروبية الأولى.

رغم ضعف الحركة الشيوعية في مصر، إلّا أنّها شهدت الجدل نفسه بعد حركة الجيش في يوليو/ تموز 1952، وصعود عبد الناصر. مؤخراً، تحديداً في 2014، نشر سمير أمين كتابه "قضايا الشيوعية المصرية"، وهو عبارة عن مجموعة من وثائق الحزب الشيوعي المصري، تعود في أغلبها إلى تلك الحقبة. كان أمين قد كتب تلك الأوراق بطلب من الرفيق خالد (د. فؤاد مرسي)، السكرتير العام للحزب الشيوعي المصري آنذاك.

الأولى من تلك الوثائق، وهي التي تتعلق بموضوعنا، وثيقة تحمل عنوان "تحليلان.. سياستان (الموقف الحالي في مصر)". ناقش سمير أمين في تلك الوثيقة الخلاف التاريخي آنذاك بين الحزب الشيوعي المصري الذي عُرف بحزب "الراية" (نسبة إلى جريدته الرسمية، وبين الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني، حدتو. كان الخلاف بين التنظيمين اليساريين هو حول الموقف من الضباط الأحرار ونظامهم. رأت حدتو آنذاك أن هؤلاء الضباط هم من البرجوازية الوطنية، وهم تيار ديمقراطي، يجب دعمه والوقوف خلفه.

أمين، وحزب الراية، رفضوا تحليل حدتو، ورأوا أن الضباط هم برجوازية كومبرادورية هي امتداد للرجعية. كان انقلاب يوليو، بحسب أمين، مؤامرة إمبريالية دعمها الأميركيون لإجهاض الحركة الوطنية الضاغطة آنذاك على الرجعية الملكية. أما إجراءات الإصلاح الزراعي، فقد رأى أمين أنها لا تخدم الفلاحين الفقراء، لأن الأرض لم تكن بعد قد تم توزيعها عليهم عندما كتب أمين ورقته. وقد تمسك أمين باجتهادات ماو تسي تونغ التي كانت قيد التشكل آنذاك كتيار في الماركسية. إذ رأى ماو أن برجوازية العالم الثالث لم يعد ممكناً أن تنجز التحوّل الديمقراطي الذي أنجزته البرجوازية الغربية، وأن هذه المهمّة أضحت إحدى مهمّات الطبقة العاملة في طريقها نحو الاشتراكية.

عاد أمين لاحقاً ليرفض التمييز الكلاسيكي في الماركسية، وهو التمييز الذي انبنى عليه هذان التحليلان، بين برجوازية وطنية وبرجوازية كومبرادورية. البرجوازية هي برجوازية قد تتخذ خطاً وطنياً أو خطاً استعمارياً، هذا ما رآه سمير أمين لاحقاً. كانت أجواء ما بعد "باندونغ"، ثم برنامج النقاط الست، والتحالف اليساري داخلياً، وخارجياً مع النظام الناصري، تفرض تلك المراجعة.

أياً ما كانت اجتهادات سمير أمين في الخمسينيات، فإن موقفه في الألفية الجديدة من الثورة المصرية لا بد أن يثير الحيرة. الرجل رأى أن ثورة يوليو 1952 هي حركة رجعية مدعومة إمبريالياً، رأى أن وصف حركة الجيش في 30 يونيو/ حزيران 2013 بالانقلاب العسكري، هو من أعراض "الفيروس الليبرالي". الرجل الذي رأى أن عبد الناصر ومن معه عناصر رجعية، رأى في عبد الفتاح السيسي عنصراً طيباً. الرجل الذي رأى أن نظام الضباط فرّط في السودان وكان يمكن أن يفرّط في فلسطين بما يخدم المصالح الاستعمارية، لم يرَ ذلك في سياسات نظام 30 يونيو. الرجل الذي ارتاب من إجراءات الإصلاح الزراعي، ومن سياسات نظام يوليو في بدايته لتشجيع الاستثمار الأجنبي، لم يتشكك في مشروع قناة السويس، بل رآه مشروعاً وطنياً، ولم يرَ الدرب البينوشي بازغاً في أعين الطغمة العسكرية المصرية. وأخيراً، الرجل الذي رفض اعتبار نظام يوليو نظاماً ديمقراطياً، لم يجد بأساً في العداء الممنهَج من نظام 30 يونيو لكلّ ما هو ديمقراطي.

وراء تلك الحالة المحيّرة، يكمن مركّب من الأفكار والتصوّرات التي صنعت المفارقة. مثلاً، أصرّ أمين على التمييز بين ديمقراطية شكلية وديمقراطية حقيقية. ليست المشكلة هنا، ولكن المشكلة أن تلك الفرضية وُظّفت مبرراً للتفريط في الشكلية بلا ثمن. أمين الذي عُرِف برفضه الاختزال في تحليلاته، رفض أية قراءة مركّبة للإسلاميين وموقعهم اجتماعياً (يبدو ذلك واضحاً في جدله النظري مع أمين خان قبيل الثورات العربية). أصرّ أمين دوماً على اعتبارهم عملاء مفضّلين للإمبريالية، ولذا كان كل شيء مبرّراً للتخلّص منهم، حتى ولو كان هذا الشيء هو "عِناق الإمبريالية".

كثير من التناقضات تختفي وراء تلك المفارقة، وتأتي تلك المفارقة فرصة مناسبة لمراجعتها. لا يمكن مثلاً مواجهة الإمبريالية عبر أنظمة سلطوية، حماية مصالح أصحاب السلطة فيها تسبق أية أولويات وطنية. تلك ليست فرضية نظرية بل واقعة. والديمقراطية كمجموعة من الإجراءات لضمان فتح الأفق السياسي والمجال العام، هي أولوية العمل الثوري في المنطقة العربية. هي أولوية لا يمكن إنجاز مهمّات أخرى بدونها، أو لا يمكن على الأقل حماية أي إنجاز يتحقّق في غيابها.

كذلك ليس الإسلاميون هم الحلفاء المفضّلون للإمبريالية، بل هم أمر واقع قد تقبل به الإمبريالية بشروط. ولا يمكن كذلك اختزال الظاهرة الإسلامية السياسية كردّة رجعية. هذه واقعة أيضاً تكشف أن افتراض الإسلاميين كخصم أوّل هو افتراض مُضلّل، بل وكارثي. وهذه المراجعة هي خطوة لا بدّ منها لدفع الوعي الثوري في اتجاه النُضج، والخلاص من تلك الانتكاسات والتحليلات المضلّلة.

دلالات
محمود هدهود
محمود هدهود
كاتب وباحث مصري في الفكر والفلسفة الإسلامية

مدونات أخرى