07 ابريل 2020
الحاجة إلى ثورة اجتماعية
يقول جون ستيوارت ميل: "لا تنشأ الحكومات وفق مخطط مُعد سلفاً.. إنها لا تُصنع بل تنمو من صلب الشعب وحياته، ونادراً ما تكون وليدة أهدافهم المتعمدة".
في البلاد العربية لم يُولوا قضية الحكم الديمقراطي والتمثيل النيابي، أو شكل هذا الحكم الذي ستتبناه البلاد بعد الاستقلال أي اهتمام. وصب جميع المفكرين في تلك الفترة حتى منتصف القرن العشرين جام غضبهم على الاستبداد الذي كان يحكم معظم البلاد العربية، دون الاهتمام بشرح شكل الدولة ونظامها، أو العمل على تغيير العقل الجمعي للشعوب العربية؛ والتي لم يكن لها حرية اختيار النظام السياسي الذي يريدون.
وذلك لأن القرار كان بيد الدول الاستعمارية الغربية التي بسطت سيطرتها على البلاد العربية بعد الحرب الكونية الأولى. أو كان الأمر يعتمد على توجيهات الأنظمة الملكية التي كانت تحكم شكلياً وتُهيمن على كل شيء داخل نطاق سلطتها؛ والتي كانت مُعينة أو وارثة للعرش بالتوافق مع أجندات الدول الغربية المحتلة.
وبالتالي كان معظم الزعماء العرب غير مستعدين لقبول أي تجديد، أو تغيير في شكل الدولة أو طبيعة الحكم الجديد. وإن كانت بعض هذه البلاد قد عرفت تعدد الأحزاب، أو شكل البرلمان، ولكن الأمر كله كان تحت سيطرة القصر، الذي كان بيده أن يحلهما في أي وقت شاء! وهذا ما جعل المؤسسات السياسية التي أُقيمت في ذلك الوقت غير مستمدة من رحم المجتمع وقواه الاجتماعية.
ولذلك لم يتكون أي شعور لدي الجمهور العربي بأن هذه المؤسسات -التي أقامها الاستعمار أو أعوانه- أُقيمت لمصلحته، أو من أجله. لأنه رأى بأن الخضوع للسيطرة الأجنبية أدى إلى المذلة وأضر بكبرياء تلك البلاد وشعوبها، وخاصة مع انبطاح تلك الأنظمة أمام غطرسة المحتل -تأمل حادثة فبراير 1942 والصدمة والمذلة التي أحدثتهما بعد محاصرة الاحتلال البريطاني قصر عابدين وإجبار السفير البريطاني في القاهرة السير لامبسون الملك فاروق على تكليف النحاس باشا بتشكيل الحكومة منفرداً أو التنحي عن العرش، ومع الوقت اكتشفت الشعوب زيف وكذب هذه الادعاءات، وخاصة بعدما سمعت قادة هذه البلاد الأوروبية يرددون بأن تلك الشعوب لا تستطيع أن تحكم نفسها بنفسها.
يقول الدكتور مجيد خدوري: "وحين بدأت السيطرة الأجنبية تضعف، وأُلقيت مهمة إدارة المؤسسات الديمقراطية على عاتق القادة الوطنيين، برزت طبقة حاكمة ذات مصالح راسخة أخذت تُهيمن شيئاً فشيئاً على هذه المؤسسات. وأظهر القادة الوطنيون، وقد ورثوا السلطة عن الدول الأجنبية، قليلاً من الاحترام للمؤسسات الحرة، وشرعوا يكشفون عن ميول تسلطية تقليدية. وواصلت الأحزاب السياسية الهزيلة وقادتها بعد أن تحرروا من الضغط الشعبي، الأساليب القديمة في العمل، بدل الاستجابة إلى متطلبات الاستقلال الحديث في إحداث تغيير جوهري. وهكذا بدأ الناس الذين توقعوا التطور والتقدم في ظل الحكم الوطني، يكتشفون كيف يسيء السياسيون الغارقون في الفساد حتى الخزي استعمال الأجهزة الديمقراطية.. وكانت الديمقراطية تفقد معناها لدى غالبية الشعب، فيما انهمك الحكام كل الانهماك في الصراع من أجل سلطة شخصية لا تخطط للتنمية والإصلاح".
وهكذا تحولت المؤسسات الديمقراطية إلى مؤسسات أوليغاركية بمجرد انتهاء السيطرة الأجنبية، كما غاب الرأي العام المدرك والمسؤول عن لعب دوره المهم في رقابة الحكومة، بحيث لا يسمح لأي حكومة أن تبقى في الحكم إذا ما كانت سياستها تعارضه، وتسير عكس سيره.
ولا يستطيع الرأي العام لعب دوره كما يجب إذا كان شعبه غارقاً في الأمية، والجهل، والفقر، والمرض، وتنخفض فيه نسبة التعليم والثقافة، وإذا لم يبق مطلعاً باستمرار على الشؤون العامة، وقضايا وطنه القومية . وكيف يمكن للرأي العام أن يصبح متنوراً في مجتمعات مصابة بالفقر والجهل والمرض؟!
وهكذا كان عمل الحكام الذين حكموا بعدما حمل الاستعمار عصاه ورحل، وخاصة أن غالبيتهم جاء إلى الحكم من فوق دبابة وعبر انقلاب عسكري؛ والذي شمل القسم الأكبر من الوطن العربي. فقد شهدت مصر انقلابها الأول عام 1952، والعراق 1936، وسورية 1941، والسودان 1958، واليمن 1949، والجزائر1962، وليبيا 1969، ثم توالت الانقلابات والتي كان آخرها وليس الأخير في مصر2013، والسودان 2019، وما تزال بعض الدول العربية عرضة لضغط العسكريين، أو مؤهلة لحدوث انقلابات عسكرية، أو لصراعات ملكية تنقلب على بعضها بعضاً.
عمل هؤلاء الحكام على تجهيل الشعوب، وتغييب وعيها، ولم يبذلوا أي جهد يذكر لإشراك الشعوب في الحكم، حتى تكوّن لدى الشعب موقف سلبي من السلطة وتغيير الحكم.
ولما تغير هذا الموقف قليلاً بعد أحداث الثورات العربية وقامت تجربة ديمقراطية واحدة ووحيدة في مصر عام 2012، قام العسكر بالانقلاب عليها مجدداً. وقد صنع هؤلاء المنقلبون فجوة واسعة بينهم وبين شعوبهم، وبدأوا في نشر ثقافة الانهزام والاستسلام للطغيان، وأنها أفضل من الفوضى والاضطراب- راجع تصريح مبارك: "إما أنا أو الفوضى"، والسيسي: "حميناكم من أن تكونوا مثل سورية أو اليمن وليبيا"- وأن الحكم الاستبدادي يضمن سلامة النظام العام أكثر من مقاومة الحاكم الظالم -راجع تصريحات مشاهير الدعاة والخطباء في السعودية-، من هنا تأتي أهمية الثورة الاجتماعية أولاً لتكون ضامنة لنجاح واستمرار الثورة السياسية التي تنادي بإسقاط النظام وتغييره! وإلا سيكون كما هو حاصل الآن، الاكتفاء بتغيير رأس النظام ورحيله، وبقاء النظام السياسي والعسكري والاقتصادي المتوحش؛ المتمثل في الثورة المضادة من العودة مرة ثانية والهيمنة على البلاد، وإخضاع العباد.
يجب العمل على صناعة وعي جمعي، ونشر أفكار الحرية، ومعاني الاستقلال، وحق الشعوب في الرقابة الواعية على الحكومات، وامتلاك الآليات والوسائل لمحاسبتها، بل وإجبارها على التنحي إذا ما انحرفت عن خط التنمية وطموحات الشعوب، وغرس مبادئ الديمقراطية الأصيلة في الحق في الترشح، وحرية الاختيار من متعدد.
"وإثارة شعب مُهيأ سلفا للوقوف ضد السلطة أسهل بكثير من أية محاولة لكبح حماسته.. وإذا أُريد للتغيير الثوري أن يكون ذا معنى فلا يمكن توقع أي تقدم حقيقي دون تحقيق ثورة اجتماعية". كما يقول الدكتورمجيد خدوري.
في البلاد العربية لم يُولوا قضية الحكم الديمقراطي والتمثيل النيابي، أو شكل هذا الحكم الذي ستتبناه البلاد بعد الاستقلال أي اهتمام. وصب جميع المفكرين في تلك الفترة حتى منتصف القرن العشرين جام غضبهم على الاستبداد الذي كان يحكم معظم البلاد العربية، دون الاهتمام بشرح شكل الدولة ونظامها، أو العمل على تغيير العقل الجمعي للشعوب العربية؛ والتي لم يكن لها حرية اختيار النظام السياسي الذي يريدون.
وذلك لأن القرار كان بيد الدول الاستعمارية الغربية التي بسطت سيطرتها على البلاد العربية بعد الحرب الكونية الأولى. أو كان الأمر يعتمد على توجيهات الأنظمة الملكية التي كانت تحكم شكلياً وتُهيمن على كل شيء داخل نطاق سلطتها؛ والتي كانت مُعينة أو وارثة للعرش بالتوافق مع أجندات الدول الغربية المحتلة.
وبالتالي كان معظم الزعماء العرب غير مستعدين لقبول أي تجديد، أو تغيير في شكل الدولة أو طبيعة الحكم الجديد. وإن كانت بعض هذه البلاد قد عرفت تعدد الأحزاب، أو شكل البرلمان، ولكن الأمر كله كان تحت سيطرة القصر، الذي كان بيده أن يحلهما في أي وقت شاء! وهذا ما جعل المؤسسات السياسية التي أُقيمت في ذلك الوقت غير مستمدة من رحم المجتمع وقواه الاجتماعية.
ولذلك لم يتكون أي شعور لدي الجمهور العربي بأن هذه المؤسسات -التي أقامها الاستعمار أو أعوانه- أُقيمت لمصلحته، أو من أجله. لأنه رأى بأن الخضوع للسيطرة الأجنبية أدى إلى المذلة وأضر بكبرياء تلك البلاد وشعوبها، وخاصة مع انبطاح تلك الأنظمة أمام غطرسة المحتل -تأمل حادثة فبراير 1942 والصدمة والمذلة التي أحدثتهما بعد محاصرة الاحتلال البريطاني قصر عابدين وإجبار السفير البريطاني في القاهرة السير لامبسون الملك فاروق على تكليف النحاس باشا بتشكيل الحكومة منفرداً أو التنحي عن العرش، ومع الوقت اكتشفت الشعوب زيف وكذب هذه الادعاءات، وخاصة بعدما سمعت قادة هذه البلاد الأوروبية يرددون بأن تلك الشعوب لا تستطيع أن تحكم نفسها بنفسها.
يقول الدكتور مجيد خدوري: "وحين بدأت السيطرة الأجنبية تضعف، وأُلقيت مهمة إدارة المؤسسات الديمقراطية على عاتق القادة الوطنيين، برزت طبقة حاكمة ذات مصالح راسخة أخذت تُهيمن شيئاً فشيئاً على هذه المؤسسات. وأظهر القادة الوطنيون، وقد ورثوا السلطة عن الدول الأجنبية، قليلاً من الاحترام للمؤسسات الحرة، وشرعوا يكشفون عن ميول تسلطية تقليدية. وواصلت الأحزاب السياسية الهزيلة وقادتها بعد أن تحرروا من الضغط الشعبي، الأساليب القديمة في العمل، بدل الاستجابة إلى متطلبات الاستقلال الحديث في إحداث تغيير جوهري. وهكذا بدأ الناس الذين توقعوا التطور والتقدم في ظل الحكم الوطني، يكتشفون كيف يسيء السياسيون الغارقون في الفساد حتى الخزي استعمال الأجهزة الديمقراطية.. وكانت الديمقراطية تفقد معناها لدى غالبية الشعب، فيما انهمك الحكام كل الانهماك في الصراع من أجل سلطة شخصية لا تخطط للتنمية والإصلاح".
وهكذا تحولت المؤسسات الديمقراطية إلى مؤسسات أوليغاركية بمجرد انتهاء السيطرة الأجنبية، كما غاب الرأي العام المدرك والمسؤول عن لعب دوره المهم في رقابة الحكومة، بحيث لا يسمح لأي حكومة أن تبقى في الحكم إذا ما كانت سياستها تعارضه، وتسير عكس سيره.
ولا يستطيع الرأي العام لعب دوره كما يجب إذا كان شعبه غارقاً في الأمية، والجهل، والفقر، والمرض، وتنخفض فيه نسبة التعليم والثقافة، وإذا لم يبق مطلعاً باستمرار على الشؤون العامة، وقضايا وطنه القومية . وكيف يمكن للرأي العام أن يصبح متنوراً في مجتمعات مصابة بالفقر والجهل والمرض؟!
وهكذا كان عمل الحكام الذين حكموا بعدما حمل الاستعمار عصاه ورحل، وخاصة أن غالبيتهم جاء إلى الحكم من فوق دبابة وعبر انقلاب عسكري؛ والذي شمل القسم الأكبر من الوطن العربي. فقد شهدت مصر انقلابها الأول عام 1952، والعراق 1936، وسورية 1941، والسودان 1958، واليمن 1949، والجزائر1962، وليبيا 1969، ثم توالت الانقلابات والتي كان آخرها وليس الأخير في مصر2013، والسودان 2019، وما تزال بعض الدول العربية عرضة لضغط العسكريين، أو مؤهلة لحدوث انقلابات عسكرية، أو لصراعات ملكية تنقلب على بعضها بعضاً.
عمل هؤلاء الحكام على تجهيل الشعوب، وتغييب وعيها، ولم يبذلوا أي جهد يذكر لإشراك الشعوب في الحكم، حتى تكوّن لدى الشعب موقف سلبي من السلطة وتغيير الحكم.
ولما تغير هذا الموقف قليلاً بعد أحداث الثورات العربية وقامت تجربة ديمقراطية واحدة ووحيدة في مصر عام 2012، قام العسكر بالانقلاب عليها مجدداً. وقد صنع هؤلاء المنقلبون فجوة واسعة بينهم وبين شعوبهم، وبدأوا في نشر ثقافة الانهزام والاستسلام للطغيان، وأنها أفضل من الفوضى والاضطراب- راجع تصريح مبارك: "إما أنا أو الفوضى"، والسيسي: "حميناكم من أن تكونوا مثل سورية أو اليمن وليبيا"- وأن الحكم الاستبدادي يضمن سلامة النظام العام أكثر من مقاومة الحاكم الظالم -راجع تصريحات مشاهير الدعاة والخطباء في السعودية-، من هنا تأتي أهمية الثورة الاجتماعية أولاً لتكون ضامنة لنجاح واستمرار الثورة السياسية التي تنادي بإسقاط النظام وتغييره! وإلا سيكون كما هو حاصل الآن، الاكتفاء بتغيير رأس النظام ورحيله، وبقاء النظام السياسي والعسكري والاقتصادي المتوحش؛ المتمثل في الثورة المضادة من العودة مرة ثانية والهيمنة على البلاد، وإخضاع العباد.
يجب العمل على صناعة وعي جمعي، ونشر أفكار الحرية، ومعاني الاستقلال، وحق الشعوب في الرقابة الواعية على الحكومات، وامتلاك الآليات والوسائل لمحاسبتها، بل وإجبارها على التنحي إذا ما انحرفت عن خط التنمية وطموحات الشعوب، وغرس مبادئ الديمقراطية الأصيلة في الحق في الترشح، وحرية الاختيار من متعدد.
"وإثارة شعب مُهيأ سلفا للوقوف ضد السلطة أسهل بكثير من أية محاولة لكبح حماسته.. وإذا أُريد للتغيير الثوري أن يكون ذا معنى فلا يمكن توقع أي تقدم حقيقي دون تحقيق ثورة اجتماعية". كما يقول الدكتورمجيد خدوري.