نص اتفاق الطائف الذي أنهى رسمياً الحرب الأهلية في لبنان (1975-1990) على "حل جميع المليشيات اللبنانية وغير اللبنانية وتسليم أسلحتها إلى الدولة اللبنانية خلال ستة أشهر"، واستثني من هذا الإلزام "حزب الله" بوصفه حركة مقاومة للعدو الإسرائيلي.
واليوم، وبعد أكثر من ربع قرن على انتهاء هذه الحرب تواصل الأحزاب اللبنانية إنتاج أجنحة مُسلحة لها تحت عناوين وطنية وإقليمية، ودوما "بالتعاون مع الجيش"، ولم يخل عام أو حدث سياسي من ظهور مُسلح للأحزاب التي استخدمت بنادقها على طاولة التفاوض السياسي.
وقد انضمت إلى هذه المليشيات، غير الشرعية، "سرايا التوحيد" التابعة لـ"حزب التوحيد اللبناني" برئاسة الوزير السابق وئام وهاب.
دخل وهاب الحياة السياسية من بوابة طائفته الدرزية، ولا يزال أحد أبرز الحلفاء المُباشرين للنظام السوري داخل لبنان وفي سورية. صنع وهاب لنفسه حيثية بين المواطنين الدروز في البلدين، ويحاول منافسة الزعامات الدرزية التقليدية في هذا المجال، كالنائب وليد جنبلاط بوصفه خصماً سياسياً، وزعامات أخرى موالية للنظام السوري كالنائب طلال أرسلان والنائب السابق فيصل الداوود.
ولم يقتصر الدعم الذي قدّمه وهاب للنظام السوري على المواقف السياسية، التي يُطلقها في بلدته في منطقة الشوف، الجاهلية، وفي مدينة السويداء السورية، بل تجاوزها لتقديم ما يسميه "شهداء في مواجهة العدوان التكفيري والإرهابي على سورية"، حيث نعى حزب وهاب، في وقت سابق من هذا الشهر، سبعة من عناصره الذين قُتلوا جنوبي سورية.
ويعني هذا أن وهاب قد أسس فعلاً مليشيا خاصة به، وأمن لها السلاح والمال لتقوم بالمهام المطلوبة منها، لكن الإعلان الرسمي عن هذه المليشيا تأخر إلى اليوم، الأحد، عبر إقامة استعراض عسكري في بلدة الجاهلية، شارك فيه عشرات الشبان المُلثمين الذين ارتدوا زياً عسكرياً موحداً، دون سلاح ظاهر.
وقال وهاب إن "هذه السرايا لن تحمل السلاح إلا للدفاع عن النفس"، على حد تعبيره، ودون تحديد العدو المُفترض لها، كما أكد الوزير السابق أن "هذه السرايا ستدعم الجيش اللبناني وستكون حليفته"، مُعلناً عن نقل هذه التجربة من الجاهلية إلى "كل المُدن والبلدات اللبنانية تحت سقف الدولة"، كما قال.
أعاد هؤلاء الشبان إلى الذاكرة مشهد "القمصان السود"، أو الحشود شبه العسكرية التي دفع بها "حزب الله" إلى شوارع العاصمة بيروت عام 2011، لساعات قليلة، بالتزامن مع "المشاورات السياسية" التي أطاحت بالرئيس سعد الحريري من منصب رئاسة الحكومة بعد "اتفاق الدوحة".
وبعد ذلك بخمسة أعوام فقط، ظهر مقاتلو الحزب على شكل فوج مُدرع في مدينة القصير السورية، خلال الاحتفال بذكرى "يوم شهيد حزب الله"، حيث قدم "حزب الله" نفسه في استعراض القصير بوصفه "جيشا مُدرباً وليس حركة مقاومة فقط"، كما نقلت وسائل إعلامية مُقربة مع الحزب عن نائب الأمين العام، الشيخ نعيم قاسم، وإن نفى المكتب الإعلامي في الحزب هذا التصريح، فإن صور المقاتلين على متن المدرعات الروسية والأميركية، التي شاركت في العرض، قدمت رسالة واضحة إلى العالم، بأن "حزب الله مُستمر في وجوده في سورية بصرف النظر عن الأوضاع الداخلية في لبنان".
وأتت هذه الرسالة بعد أسابيع قليلة من خطاب القسم الذي ألقاه الرئيس المُنتخب ميشال عون، وقال فيه إن "تحييد لبنان عن الأحداث الإقليمية واجب"، وأتى استعراض وهاب في الجاهلية ليُكمل ما بدأه استعراض القصير من ضرب لهذا الخطاب.
وقد ساهمت مفاوضات تشكيل الحكومة اللبنانية الجديدة، وحرص الأفرقاء السياسيين في لبنان على استمرار "الأجواء الإيجابية" التي تلت انتخاب عون وتكليف الحريري بتشكيل أولى حكومات العهد في خفض مستوى الاعتراض السياسي والشعبي إلى مستويات دنيا،
وذلك مقارنة بالتحركات الشعبية المتواضعة والتصريحات السياسية مرتفعة السقف التي رافقت مراحل تدخل "حزب الله" في سورية.
وقد يجد اللبنانيون أنفسهم أمام الإعلان عن المزيد من المليشيات أو مشاهدة استعراضات إضافية في ظل هذه الأجواء السياسية.
وجدير بالذكر أن العام الحالي لم يخل من تسجيل مجموعة أحداث أمنية برز فيها وهاب و"جنوده"، والبداية كانت مع تفجير سيارة أحد المواطنين في محافظة البقاع، خلال سبتمبر/أيلول الماضي، بعد أن رفع الأخير لافتة تنتقد تصريحات سياسية أدلى بها وهاب.
وبعد أن أوقفت القوى الأمنية المرافق الشخصي للزعيم الدرزي بتهمة تنفيذ التفجير، الذي أدى إلى جرح طفلتين سوريتين، شن وهاب حملة على "فرع المعلومات في قوى الأمن". وبعدها بشهرين رفض موكب وهاب الالتزام بتعليمات عناصر الأمن العام اللبناني عند نقطة المصنع الحدودية. واستنفر مرافقوه بعد محاولة العناصر الرسميين تفتيش السيارات، التي كادت أن تلتصق بالأرض بسبب ثقل حمولتها.
ولا بد من التذكير بأن الوزير السابق ومستشار الرئيس السوري، ميشال سماحة، كان قد نقل متفجيرات وعبوات من سورية إلى لبنان بسيارته التي لا تخضع للتفتيش، كما وجد أعضاء المليشيات اللبنانية الأخرى منافذ قانونية أخرجتهم من السجون، التي قضوا فيها فترات قصيرة بتهم مُتعددة، كمحاولة إحراق تلفزيون الجديد التي أقدم عليها أحد عناصر "سرايا المقاومة" التابعة لـ"حزب الله"، أو "المشاركة في جولات القتال بين جبل محسن وباب التبانة في طرابلس" والتي خرج فيها مُسلحو الطرفين من السجون بعد قضاء أشهر قليلة، انتشرت خلالها صور الولائم التي نُظمت داخل الزنانزين لبعضهم الذين حملوا صفة "قادة محاور".
كما تدور الاشتباكات المُسلحة في مناطق مُختلفة كالسعديات وعرمون جنوبي وبيروت، وفي منطقة "الفيلات" في صيدا بين عناصر المليشيات دون توقيفهم أو مساءلتهم قانونيا، وفي ظل هذه الوقائع بات السؤال مشروعاً عن الكيفية التي ستتعاطى بها الدولة اللبنانية مع آلاف المُقاتلين اللبنانيين الذين سيعودون إلى بلادهم بعد انتهاء الحرب السورية، وعن نوعية الجرائم التي قد يرتكبها من يجد نفسه فوق القانون، ليس على الصعيد المحلي فقط وإنما على الصعيد الدولي أيضاً.
وإن كانت "إعادة بناء الدولة اللبنانية" بعد انتهاء الحرب الأهلية قد سمحت باستيعاب أعداد كبيرة من عناصر المليشيات ضمن الأجهزة الأمنية والعسكرية الرسمية، لا يبدو أن الجيل الجديد من "المليشياويين" سيجدون من يستوعبهم.