الجوكر ونظرية اللعبة.. المهرّج أقل جنونًا ممّا نظن

06 اغسطس 2017
+ الخط -
تسأل شخصية الجوكر "هل ترغب في معرفة سرّ هذه الندبات؟" في فيلم "سيّد الظلام". وهو سؤال بلاغي يطرحه أمير الظلام والمهرّج مرّتين، ولكن بعد كل مرّة، تكون هناك قصّة مختلفة عن الأولى؛ فإحدى القصص تتضمّن والده المخمور، والأخرى تتعلّق بزوجته السابقة وشفرة حلاقة.

هذه القصص هي التوضيح المثالي لغموض الشخصية التي كتبها جوناثان وكريستوفر نولان. قد تكون إحدى هذه القصص صحيحة والأخرى لا، أو قد تكون كلتاهما صحيحة؛ ولربما صارت هذه الندبات مخيفة بسبب هاتين الحادثتين بشكل منفصل. أو قد لا تكون أي منها صحيحة؛ بل وأن تكون جزءًا من شخصية هذا المُخادع الغامض.

ومثل شخصية جون دو، فيلم دايفيد فينشر "Se7en"، تبدو شخصية الجوكر كشبحٍ يجمع نفسه ويكوّنها من اللاوعي الجمعي لمديمة غوثام، فهو يمثّل التجسيد الحيّ لتوعّكها الاجتماعي. يقول ألفريد صديق بروس واين، إن الجوكر يريد أن يرى العالم يحترق وحسب. ويقول الجوكر عن نفسهِ إنه مثل الكلب الذي يجري خلف سيارة ما، ولا يعلم ماذا سيحصل إذا ما تمكن من الوصول إليها. ولكن في مشهد آخر، ينكر جوكر بحدّة أنه مجنون.

حسنًا، ما طبيعة جنون الجوكر في فيلم فارس الظلام؟ ما الذي يدفعه ليلقّب نفسه بـ "عميل الفوضى"؟ والشيء الوحيد الأكيد في هذا السياق هو أن الجوكر ليس مثل أي شرير عادي في المجلّات الهزلية "كوميكس".


معضلة السجينين 
إذا كنت قد شاهدت الفيلم الحائز على جائزة الأوسكار لعام 2001 Beautiful Mind، فستعرف من هو جون ناش، وهو العالم الأميركي الرياضي الذي أضاف كثيرًا إلى نموذج نظرية اللعبة في خمسينيات القرن الماضي، عندما كانت الحرب الباردة في ذروتها.

نظرية اللعبة ببساطة شديدة هي دراسة الاستراتيجيات الكامنة في التفاعل البشري. من خلال تحليل شخصين يلعبان (إكس، أو)، على سبيل المثال، يمكنك أن تحصل على صيغة رياضية تستنتج جميع التحرّكات الممكنة المختلفة التي يمكن أن يقوم بها كل لاعب، ومن هذا الاستنتاج يمكنك أن تعرف الطريقة الأفضل للفوز على خصمك، وقد قام كثير من علماء الرياضيات بهذه الخطوة قبلاً.

وهناك تجربة فكرية تستعمل غالبًا لتوضيح طريقة عمل نظرية اللعبة، وتسمّى معضلة السجينين. وقد وصفها آدم كورتيز في فيلمه على قناة BBC باسم الفخ The Trap. معضلة السجينَين هي النواة الأساسية لمشكلة التعاون ضمن نظرية اللعبة، وتتضمن اللعبة مُتّهَمين، لا يملك المُحقّق أدلةً كافية على أي منهما لإثبات الجُرم. والخيارات المتاحة أمام كل متهم أثناء التحقيق هي: إما أن يشهد على المتهم الآخر أمام القاضي، أو أن يلتزم الصمت. في حال آثر المتّهمان الصمت، لا تستطيع المحكمة إثبات التهمة على أي منهما، ويحكم على كل منهما بالسجن ستة أشهر فقط. أما لو شهد أحد المتهمين على صاحبه، يخرج الشاهد دون حكم ويحكم على الآخر بالسجن عشر سنوات. إذا اختار المتّهمان أن يشهد كل واحد منهما ضدّ الآخر، يُحكم على الاثنين بخمس سنوات من السجن. كلا المتّهمين لا يعلم بقرار الآخر أثناء التحقيق معه.

ما يسبّب معضلة السجينين هو غياب التواصل بينهما، لذلك تكمن المعضلة في الخيار العقلاني، عن طريق النظر إلى الخيارات المتاحة لأحد أطراف اللعبة، هو خيانة الشريك والاعتراف بصفته الاستراتيجية المهيمنة التي تؤدّي بالنتيجة إلى أفضل المكاسب: وهي إما إطلاق السراح أو السجن لمدّة خمس سنوات للجميع. فالخيار العقلاني يؤدّي بشكل جمعي إلى سوء العاقبة: السجن للجميع خمس سنوات، في حين أن الخيار اللاعقلاني - التزام الصمت - يؤدي بالجميع إلى عاقبة أقل سوءًا: السجن ستة أشهر. بعبارة تقنية أكثر، المعضلة إذن هي في كون التوازن الفريد لهذه اللعبة ليس حلًا مثاليًا لها.

ولشرح المعضلة بشكل واضح، سنستخدم المثال الآتي: هناك لصّ يحاول أن يبيع حجرًا كريمًا مقابل ملايين الدولارات. وفي الوقت نفسه، هناك رجل عصابات يريد أن يشتري هذا الحجر بقوّة. تحصل مفاوضة بين اللص ورجل العصابات عبر الهاتف بدلًا من وجهًا لوجه حول شراء هذا الحجر، ويتمّ الاتفاق بينهما، حيث سيترك كل منهما الحجر الكريم والمال في مناطق مختلفة، ليذهب كل شخص منهما إلى تلك المناطق.

الآن، وفي هذه الحالة، لا يوجد أي طريقة لدى اللص ليتأكّد من أن رجل العصابات قد ترك له المال في مكانٍ ما حقًا، وأيضًا لا يوجد لدى رجل العصابات أي طريقة ليتأكّد من أن اللص قد ترك له الحجر الكريم في مكانٍ ما حقًا أيضًا. وتشير هنا نظرية اللعبة، أنه، ومن وجهة نظر اللص، سيكون من الأفضل له أن يكذب بدلًا من قول الحقيقة، لأنه وفي أسوأ السيناريوهات، قد يكون رجل العصابات يكذب بشأن الموقع الذي وضع فيه المال، وهو ما يعني أن اللص سيحتفظ بحجره الكريم لو كان كلاهما يكذب. أما في أفضل السيناريوهات، هو أن رجل العصابات صادق واللص كاذب، وهذا يعني أن اللص في نهاية اليوم، سيكون لديه كثير من المال والحجر الكريم معًا.

بسبب سيناريو نهاية العالم نتيجة حرب نووية، والذي كان سائدًا في خمسينيات القرن الماضي، تناول العلماء هذه النظرية بشغف كوسيلة للتنبؤ بسلوك العدو. ومن خلال عرض الحرب الباردة باعتبارها لعبة (إكس، أو) بين الغرب والشرق، تمكّنت نظرية اللعبة من خلق نموذج لاستراتيجيات كلا الجانبين ونتائجها المحتملة. وهنا يشرح الفيلسوف الاقتصادي والسياسي فيليب ميروسكي كيف يعمل هذا الفخ:

"هذا نوع من الحروب لم يسبق له مثيل من قبل، وكما نعلم جميعًا، فإن النتيجة ستكون مدمّرة جدًا لدرجة أنه من المستحيل النظر في كل عواقبها. ولكن لا يزال العلماء يقولون إن هناك طريقة عقلانية لمعرفة مسارات مثل هذه الحرب الافتراضية، وأنه يُمكن لنظرية اللعبة أن تقدم هذه المسارات، والتي تمكّنك أيضًا من استيعاب عدوك في عقلك؛ وبالتالي معرفة ما يمكن لعدوك القيام به رياضيًا في النقطة التي تكون فيها أنت وهو تلعبان بالاستراتيجيات الفرعية نفسها".

هذه الوسيلة التي تعتمد على الاستراتيجية لتحقيق التوازن ستحقّق قريبًا انتشارًا واسعًا ولغايات غير الحرب النووية في الحرب الباردة، وهذا بفضل نظريات عالم الرياضيات جون ناش الحائز على جائزة نوبل. ويشرح ناش أنه إذا كان الجميع في اللعبة يعملون من أجل مصلحتهم الذاتية، فإنهم سيجدون الاستقرار في نهاية المطاف، أي يصلون إلى حالة حيث يحصل الجميع على ما يريدون دون خسارة أي شيء. أو حسب مصطلحات الحرب الباردة، فإنه يمكن للجميع الاستمرار في أعمالهم اليومية دون أن يفجّروا بعضهم بالرؤوس النووية.

وقد تم تطبيق توازن ناش على نطاق واسع وفي جميع حقول العلوم، من الاقتصاد إلى مباريات كرة القدم. ويمكننا أيضًا أن نرى هذه النظرية الاستراتيجية في طريقة تفكير الجوكر، وقد لاحظ بعض علماء الرياضيات والفلسفة التشابهات بعد فترة قصيرة من إطلاق الفيلم. دعونا الآن نلقي نظرة على بعض الأمثلة في سلوك جوكر وكيف تنطبق على أساسيات نظرية اللعبة.


سرقة البنك
في مشهد افتتاحي لا يُنسى في فيلم "فارس الظلام"، يظهر خمسة لصوص يرتدون أقنعة المهرج ويشرعون في سرقة بنك حيث يقفزون من على سطح مبنى مجاور ويقطعون الكهرباء ويقتربون من أجل اقتحام المكان من أجزاء مختلفة من المبنى. وأثناء فعلهم ذلك، يتحدّثون عن رجل غريب يضع مكياجًا وقام بتكليفهم بهذا العمل. ثم يحدث الشيء غير المتوقع. يبدأ الخمسة بالانقلاب بعضهم ضد بعض، حيث كان كل واحدٍ منهم يذكر شيئًا أنه كلّما قلّ العدد كان نصيب الباقين أكثر.

وفي الوقت الذي ينزع فيه الجوكر الغلاف عن وجهه ليكشف لنا عن وجهٍ مخيف أكثر من القناع الذي كان يرتديه، يكون كل المشاركين في السطو قد قتلوا، حيث تم خداع كل واحدٍ منهم ليقوم بقتل الآخر بعد أن يقوم بالمهمّة المنوطة بها في خطة الجوكر. مشهد افتتاحي رائع يذكرنا بالمشهد الشهير في فيلم Heat من إخراج مايكل مان عام 1995، والذي يعطينا أيضًا فكرة مبكرة ن الطريقة التي تم تجسيد شخصية الجوكر بها في فيلم "فارس الظلام" وكيف يفكّر ويخطط.

وتقوم عملية السطو التي قام بها الجوكر على افتراض أن جميع اللصوص المشاركين في العملية عنيفون وغير أخلاقيين، والمُحرّك الأساسي لهم هو الطمع. فعندما عُرضت عليهم كمية كبيرة من المال، كانوا مستعدّين لقتل بعضهم البعض ليحصلوا على حصص بعضهم. ولو أن واحدًا فقط أثبت خطأ الجوكر حول افتراضه ولم يقتل شريكه، لفشلت الخطة فشلًا تامًا، ولكن بطبيعة الحال، لم يخيّب اللصوص الظن، وقدّموا لـ "أمير الظلام" النتائج التي كان يتوقعها بحذافيرها.

أوركسترا الجوكر في عملية السطو في المشهد الافتتاحي تشبه كثيرًا لعبة القراصنة، وهي لعبة فكرية قريبة جدًا إلى معضلة السجينين أعلاه. باختصار، في اللعبة خمسة قراصنة، وكل قرصان أكبر عمرًا من الآخر، ويحاولون توزيع 100 عملة ذهبية بينهم. إذا أراد القرصان الأكبر عمرًا بينهم أن يأخذ حِصة الأسدِ من العملات، فعليهِ أن يدخل إلى باقي القراصنة من مدخل رغبتهم في البقاء على قيد الحياة، وربّما إعطائهم بعض المال. وأفضل حلّ يمكن أن تخرج به لعبة القراصنة هذه، من وجهة نظر أكبر القراصنة عمرًا، هي أن يخرج هو وفي حوزته 98 عُملة وقتل قرصانين ودفع عملتين للقرصانين الباقيين (عملة لكل واحد منهم).

وفي حالة السطو على البنك في فيلم "سيد الظلام"، نرى أن الجوكر هو القرصان الأكبر عُمرًا، ولكن، ولأنه الجوكر، استطاع أن يجدَ طريقةً ليلعب اللعبة وليحصل لنفسهِ على كل المال وقتل كل منافسيهِ غدرًا.

حين يلعب الناس
تقريبًا كل حركة يقوم بها الجوكر لها أساس استراتيجي تقوم عليه، ولنأخذ مثلًا تطوّر نقاش الجوكر حيث يتفاوض مع عصابات غوثام الأكثر شراسة على قتل باتمان، وكم ينبغي أن يكلفّهم. يخبرهم الجوكر أنه يريد نصف أموالهم، وهو الأمر الذي يؤدّي بشكل واضح إلى تأجيج غضب مَنْ في الغرفة. يردّ الجوكر على هذا الغضب بإخبارهم، أنه ببقاء باتمان حيًا وحُرًا في المدينة، فإنهم سيخسرون كل المال، لأنهم لن يكونوا قادرين على ممارسة أعمالهم.

وفي مقالة مفصّلة ومكتوبة ببراعة، يشرح بريش تالوالكار أن الجوكر كان يلعب لعبة الفطيرة المُتقلّصة (وهي ضمن نظرية اللعبة) في هذا المشهد. وسيناريو هذه اللعبة كالآتي: طفلان يتجادلان حول كيفية تقسيم فطيرة الآيس كريم، والتي تذوب بسرعة لأنه يوم حار ومشمس. أحد الطفلين يعطي الآخر إنذارًا بسيطًا: إما أن نقف هنا وننتظر حتى تذوب الفطيرة أو أن نوافق على تقسيمها إلى نصفين الآن، وبالتالي يكون بوسع كلينا أن يأكلها ويستمتع بها. يلعب الجوكر اللعبة نفسها مع رجال العصابات. اقبلوا بهذا العرض قبل فوات الأوان.

مرّة بعد أخرى، يقلب الجوكر الشخصيات بعضها ضد بعض، ليجعلها غير راغبة في المشاركة في اللعبة. وهناك مشهدٌ يلقي فيه الجوكر عصا بلياردو مكسورة عند قدمي سفّاحيْن ويطلب منهما أن يتقاتلا من أجل مكانٍ واحد في فريقهِ. مكان لشخص واحد فقط. وهناك أيضًا مشهد آخر، حيث يضع الجوكر باتمان أمام خيارٍ صعبٍ، حين يسأله أن يختار بين رايتشل وبين هارفي دينت، واللذين سيتمّ تفجيرهما في الوقت نفسه.

جميع تفاعلات الجوكر مع الشخصيات الأخرى تتضمّن التلاعب بها. وتقوم هذه التفاعلات على افتراض أن الآخرين إن تخلوا عن شيءٍ ما، فإنهم سيحصلون على شيء في المقابل سيساعدهم أو سيساعد أشخاصًا قريبين منهم. فعناصر الشرطة فاسدون ويصرّحون بمعلومات مهمة لأن لديهم أشخاصًا يُحبّونهم في مستشفى غوثام. ورجال العصابات يدفعون نصف ثروتهم للجوكر ليقضي على باتمان. ويحاول المواطنون قتل محاسبٍ، لأن الجوكر يهدّد بتدمير المستشفى.

بالنسبة لمجنون يضع مكياج مهرجٍ، يمكننا أن نقول بشكلٍ مؤكّد إن الجوكر يحب وضع الاستراتيجيات والعمل بناءً عليها. ولربما نصدق هذا لأن الجوكر أقل جنونًا بكثير مما يصدق باتمان أنه كذلك.


جنون الجوكر
هل رأيتم كم يمزح الجوكر؟ هل لاحظتم تعابير وجه هيث ليدجر في أدائه الجوكر عندما سأله غامبول: "هل أنت مجنون؟"، وهو ما يعطيه إجابة ضمنية: "أنت لا تعرف شيئًا عمّا أنا عليهِ أو عني". ربما تكون هذه اللحظة القصيرة هي المفتاح لفهم طبيعة جوكر الحقيقية.

تكمن عبقرية الجوكر في جعل حركاته وأفعاله التي تبدو غير عقلانية، في حين أنها تكون كذلك. عن طريق تحفيز أسئلة مثل: "كيف يمكن لشخص عاقل أن يقوم بفعل أرعن كسرقة بنك؟ وأي شخصٍ مختل ذلك الذي يفجّر مستشفى؟". ينجح الجوكر من خلال مظهره وأفعاله الغريبة في تطبيق طريقته الحقيقية في التفكير بنجاح.

وبعيدًا عن عدميته المجنونة، تمكّن الجوكر بمكرهِ من خداع باتمان وصديقة مفتش الشرطة غوردن ومن تضليلهما كذلك مرات عدة. وعندما نجح باتمان في القبض على الجوكر في منتصف الفيلم تقريبًا، لم يكن يضع في حسبانهِ احتمال أن يكون الجوكر قد خطط ليتم القبض عليهِ منذ البداية. ومن خلال عدم الاعتراف بأن تحرّكات الجوكر استراتيجية للغاية، استمرّت قوى الخير في غوثام في التقليل من شأن الجوكر مرارًا وتكرارًا.

يقول الجوكر لهارفي دينت: "لا توجد لدي خطة"، ولكن كان واضحًا جدًا أن هذا ليس صحيحًا. وأيضًا يقول الجوكر إنه يؤمن بالحظ والفرص، ولكننا لو تابعنا لعبة الجوكر، لوجدنا أن الحظ والفرص دائمًا لصالحهِ.

عبقرية الجوكر حين أوهم هارفي بأنه لديه الفرصة لقتلهِ (لاحظ إصبع الجوكر يضغط على الإبرة؛ بمعنى، لو ضغط هارفي على الزناد، لم تكن الإبرة لتضرب الرصاصة، وهو ما لم يلحظه هارفي).

تقريبًا كل شيء يقوم بهِ الجوكر في فيلم "فارس الظلام" نابع عن قراءة شريرة لنظرية اللعبة، والتي تركّز على أن كل البشر نهاية محكومون بمصلحتهم الذاتية عندما تصير الأمور على المحكّ. وهو ما يعبر عنه الفكر الفلسفي للإنسان الاقتصادي (هومو إيكونوميكس) كما تم تقديمه في العرض التاسع عشر على يد جون سيتورات ميل أو آدم سميث، وهنا اقتباس من سميث حول الموضوع: "نحن لا نتوقّع أن تأتينا أطباق العشاء بصدقةٍ من الجزّار أو الخبّاز، بل لأن ما يفعلونه يحقّق لهم مصلحة شخصية كذلك".

يصل الجوكر إلى الاستنتاج نفسه في الاقتباس أعلاه حول أن الإيثار غير موجود حقًا وأن البشر يهتمون بتحقيق مصالحهم الشخصية لدرجة تدفعهم لقتل الآخرين إن اضطروا إلى ذلك، وهو ما يقوله لـ باتمان حول سكان غوثام: "كل أخلاقهم وكل رموزهم ليست إلا نكتة سيئة. سأثبت لك ذلك وسأريك، حين تصير الأمور على المحكّ، سترى هؤلاء الناس المتحضّرين يأكلون بعضهم بعضاً. أترى؟ أنا لستُ وحشًا، أنا فقط سبقتكم في العودة للحالة الطبيعية".


أصول ودوافع
لم يكشف فيلم "سيد الظلام" أصول الجوكر أو من أين أتى، وكانت نواياه في الفيلم كذلك تختلف من مشهد إلى مشهد. فنحن نراه في أوّل مشهدٍ يسطو على بنكٍ ثم يجلس ليفاوض العصابات على مزيد من المال، ولكنّه في نهاية الأمر يحرقه كلّه. ثم يقودنا الافتراض لاحقًا إلى أن الجوكر يسعى إلى قتل باتمان، ولكن يكشف بنفسهِ بعد ذلك أن هذا الأمر لم يكن في نيّته أبدًا. يمكننا أن نستخلص نهايةً أن هدف الجوكر الأساسي كان إشراك باتمان في لعبة قطٍ وفأر نفسية غير منتهية.

وهناك نظرية تقول إن الجوكر كان جنديًا سابقًا، وإلا فكيف نفسر معرفته الوطيدة بالأسلحة وكيفية استخدامها وخبرته بالمتفجّرات. ومهما كان ماضي هذا الشرير قبل أن يقرّر أن يضع على نفسه مكياج الجوكر، فإن ثلاثية باتمان ترسل رسالة ضمنية مفادها أن باتمان هو من خلق الجوكر نفسه من غير قصد، إذ، وفي نهاية الفيلم الأوّل Batman Begins، نرى غوردن يحذر باتمان من أن وجوده سيؤدّي إلى تصعيد من نوع ما في عالم الجريمة.. "عندما بدأنا نحمل أسلحة نصف أوتوماتيكية، حمل المجرمون أسلحة أوتوماتيكية وعندما بدأنا بلبس دروع كيفلار، أحضروا أسلحة مضادة للدروع، وها أنت الآن تلبس قناعًا وتقفز على أسطح المنازل..".

ثم انتقل غوردن ليتكلّم عن جنايات مجرمٍ جديدٍ يميل إلى إضافة طابعٍ درامي لمسارح جريمته، وهو ما رسم الخط الفاصل بين بداية نشاط باتمان في غوثام وظهور الجوكر. أعطت طريقة باتمان الجديدة في تطبيق القانون الإلهام للجوكر ليكشف عن نوعٍ جديد يخصّه من الفوضى. فظهور باتمان في حد ذاته نقل عالم الجريمة والعدالة إلى مستوىٍ جديد استوجب ظهور مجرمين على نفس المستوى. فباتمان لا يفعل ما يفعله من أجل المال ولا من أجل السلطة والجوكر كذلك لا يُحفزّه المال ولا يسعى للسلطة، وإنما يريد فقط أن يمارس ألعابه.


السفينتان
في نهاية المطاف، تم إثبات وجهة نظر الجوكر عن الطبيعة البشرية بأنها خاطئة. وحصل ذلك حينما كانت سفينتان مليئتان بالناس وهما في عرض البحر، واحدة مليئة بالمواطنين والأخرى مليئة بالمساجين، وتم إعطاء كل من على السفينتين حتى منتصف الليل ليضغطوا على زر المفجر الذي سيفجر السفينة الأخرى، وإن لم يفعلها أي أحدٍ منهم، سيقوم الجوكر بتفجير السفينتين.

من وجهة نظر استراتيجية، يبدو السيناريو بسيطا تمامًا: لماذا لا ينبغي للمدنيين أن يفجروا المجرمين لإنقاذ أنفسهم؟ من سيشتاق لهم؟ والشيء نفسه يمكن أن يقال من منظور المجرمين: المجتمع يتجاهلنا على أي حال، لماذا لا نفجر مجموعة من الغرباء من أجل إنقاذ أنفسنا؟

ومع ذلك فشل الجوكر في تحليل بعض العوامل في الغريزة الإنسانية في خطته الاستراتيجية مثل الضمير وعدم الثقة. قد يكون تفجير واحدة من السفينتين هو الحل المنطقي للقيام بهِ، ولكن ماذا عن التداعيات النفسية لهذا الحل فيما بعد؟ هل يمكنك أن تعيش راضيًا عن نفسكَ لو ضحيت بالعشرات من الأرواح لتنقذ روحك أنت؟ وكما رأينا في الفيلم، فإن ركاب السفينتين وصلوا للخلاصة نفسها في النهايةٍ، وهي أنه ليس بإمكان أي منهم تفجير سفينة الآخر. ربّما لم يكن الجوكر مُطّلعًا على الطبيعة البشرية تمامًا كما أدّى بأنه يفهمها ووصل إليها قبل الجميع.

يستخدم جوكر تكتيكات الإرهاب للتلاعب بأهل غوثام في محاولة متكرّرة لإثبات أن الواقع يتّفق مع رؤيته الخاصة. ومع ذلك، في المشهد النهائي للفيلم، تفشل كل خطط الجوكر بسبب البقعة العمياء في خطتهِ: رفض الناس على القارب قتل بعضهم بعضاً. باتمان يخاطر بحياته الخاصة لإنقاذ ابن غوردن من هارفي دنت.

في النهاية، يتضح لنا أن الجوكر الذي يدّعي أنه يسير بلا خطة أكثر شخص يمشي على خطة، ولكن خططه تكون على مستوى محبوك وبعيد عن الملاحظة. يمشي على استراتيجيات مدروسة ضمن نظرية اللعبة، وهو إن دلّ على شيء، فإنه يدل على عبقرية نولان في كتابتهِ لهذه الشخصية لمناقشة كل هذه المواضيع بأبعادها المختلفة.

المساهمون