27 يونيو 2019
الجهاز السرّي.. الحقيقة الغائبة
محمد المولدي الداودي (تونس)
لم يكن الإسلاميون في تونس جزءاً من مؤسسات الدولة، ولا جهازها الإداري، بل كانوا جزءاً من اختبار سلطة الدولة، واحتكارها للعنف المؤسس على فرضية القانون، و"حماية" جسد الدولة التنظيمي والقانوني والإداري.
في سنوات الغياب، تمكّن النظام من صناعة آليات الإقصاء، وحافظ على كيانات الهامش المراقب أمنياً، وهو من أشكال ترتيب نمط العيش لمجموعة اجتماعية سياسية وفكرية "محظورة"، وتمكّن من بناء منظومة مراقبة، يصعب اختراقها، ومنها "البحث الأمني". ولا تزال ذاكرة التونسيين تحتفظ بقصص الإقصاء والإبعاد والحرمان من التوظيف، أو المشاركة في المناظرات الخاصّة بالأسلاك الأمنية والعسكرية والقضائية.
بعيداً عن النواة الصلبة للنظام، وهي إدارية أمنيّة، كان الهامش الاجتماعي مراقباً ومحاصراً (نظام المراقبة الإدارية)، كما سعى النظام إلى إحداث دوائر حماية تستوعب المنظمات والجمعيات والنخب الفكرية والثقافية، وتمكّن من ترسيخ روابط خفيّة تتفق في محاصرة الخصم الأيديولوجي والسياسي.
كان تقاسم دوائر النفوذ الإداري والأمني والجمعيّاتي شديد الترتيب، ومحكوماً بشروط التفاعل النفعي جهويّاً وقطاعيّاً وسياسيّاً.
كانت المؤسسة الأمنية محكومة بعناصر الولاء الجهوي والمالي، ولذلك كانت المؤسسة الأكثر ولاء للنظام والعائلة الحاكمة.
بُعيد الثورة، لم يتغيّر البناء الهيكلي للدولة والسلطة، وظلت المؤسسات الإداريّة والأجهزة الأمنيّة والعسكريّة والمنظمات الفاعلة جزءاً من الصورة القديمة، ولم يطلها كثير تغيير في أشخاصها، أو في معتقداتها وسياساتها، وهذا ما بدا واضحاً في مرحلة الترويكا، حيث كان الجهاز الإداري عاملاً من عوامل الإرباك للحكّام الجدد، عبر تعطيل القرارات، وتسريب الوثائق المهمّة، ونشر المعلومات الأمنية الخطيرة، كما كان الجهاز الإعلامي عنصراً فاعلاً من عناصر الارتداد على مكتسبات الثورة ومنجزاتها.
النظام في تونس منذ الاستقلال تحالف بنائي بين مكوّنات ثلاثة (الجهة والمال والأمن)، بالإضافة إلى تنظيم العلاقة بين النظام في بعده الإداري والأمني والمالي والجهوي والمنظمات العمالية والحقوقية، وهو تنظيم تحكمه علاقات الترابط الموضوعي والانفصال الظاهر (بنية التشابك والتفاصل).
التغيير زمن الترويكا سطحي وساذج، لم يتمكّن من اختراق البنية المحصّنة للنظام القديم، وكسر عناصر الترابط بين مكوّناته الفاعلة، وكلّ محاولة للتغيير الجدّي واجهتها المكونات المتشابكة، كالمنظمات الحقوقية والنقابية والإعلامية، وظلّ العمق الفاعل ساكناً ثابتاً مهيّئاً لرفض هذا الجسم السياسي الجديد الذي تدرّب على قمعه لا التفاعل معه والاستجابة لحكمه.
الحديث عن الجهاز السرّي لحركة النهضة تلهية وسخرية سوداء تتجاوز القضيّة الحقيقيّة، وتخفي السؤال المرّ في تونس. وهو تغييب لمناطق البحث الحقيقية التي تختفي فيها الإجابات عن سؤال الاغتيالات والإرهاب والتدخّل الخارجي والمال والنفوذ الجهوي.
الجهاز السرّي الحقيقي هو الجهاز الذي مكّن هيئة الدفاع عن الشهيدين، شكري بعيد ومحمد البراهمي، من وثائق قد لا تحمل حقائق في حد ذاتها بقدر ما تحمل موقفاً سياسياً أعاد رسم التحالفات القديمة المتجدّدة بين المكوّنات البنائية للنظام القديم الحيّ في عمق الدولة ومؤسساتها.
الجهازالسرّي الحقيقي هي الهيئة في علاقاتها بأطراف أمنية وإعلامية وسياسيّة وماليّة ونقابيّة وحقوقيّة، وهو النظام القديم الذي لا يزال فاعلاً وقادراً على الفعل بعيداً عن الثورة ومطالبها ومكاسبها، وهو كل العناصر المتحالفة لإسقاط الثورة، ومسار الانتقال الديمقراطي والحقيقة، كل الحقيقة.
في سنوات الغياب، تمكّن النظام من صناعة آليات الإقصاء، وحافظ على كيانات الهامش المراقب أمنياً، وهو من أشكال ترتيب نمط العيش لمجموعة اجتماعية سياسية وفكرية "محظورة"، وتمكّن من بناء منظومة مراقبة، يصعب اختراقها، ومنها "البحث الأمني". ولا تزال ذاكرة التونسيين تحتفظ بقصص الإقصاء والإبعاد والحرمان من التوظيف، أو المشاركة في المناظرات الخاصّة بالأسلاك الأمنية والعسكرية والقضائية.
بعيداً عن النواة الصلبة للنظام، وهي إدارية أمنيّة، كان الهامش الاجتماعي مراقباً ومحاصراً (نظام المراقبة الإدارية)، كما سعى النظام إلى إحداث دوائر حماية تستوعب المنظمات والجمعيات والنخب الفكرية والثقافية، وتمكّن من ترسيخ روابط خفيّة تتفق في محاصرة الخصم الأيديولوجي والسياسي.
كان تقاسم دوائر النفوذ الإداري والأمني والجمعيّاتي شديد الترتيب، ومحكوماً بشروط التفاعل النفعي جهويّاً وقطاعيّاً وسياسيّاً.
كانت المؤسسة الأمنية محكومة بعناصر الولاء الجهوي والمالي، ولذلك كانت المؤسسة الأكثر ولاء للنظام والعائلة الحاكمة.
بُعيد الثورة، لم يتغيّر البناء الهيكلي للدولة والسلطة، وظلت المؤسسات الإداريّة والأجهزة الأمنيّة والعسكريّة والمنظمات الفاعلة جزءاً من الصورة القديمة، ولم يطلها كثير تغيير في أشخاصها، أو في معتقداتها وسياساتها، وهذا ما بدا واضحاً في مرحلة الترويكا، حيث كان الجهاز الإداري عاملاً من عوامل الإرباك للحكّام الجدد، عبر تعطيل القرارات، وتسريب الوثائق المهمّة، ونشر المعلومات الأمنية الخطيرة، كما كان الجهاز الإعلامي عنصراً فاعلاً من عناصر الارتداد على مكتسبات الثورة ومنجزاتها.
النظام في تونس منذ الاستقلال تحالف بنائي بين مكوّنات ثلاثة (الجهة والمال والأمن)، بالإضافة إلى تنظيم العلاقة بين النظام في بعده الإداري والأمني والمالي والجهوي والمنظمات العمالية والحقوقية، وهو تنظيم تحكمه علاقات الترابط الموضوعي والانفصال الظاهر (بنية التشابك والتفاصل).
التغيير زمن الترويكا سطحي وساذج، لم يتمكّن من اختراق البنية المحصّنة للنظام القديم، وكسر عناصر الترابط بين مكوّناته الفاعلة، وكلّ محاولة للتغيير الجدّي واجهتها المكونات المتشابكة، كالمنظمات الحقوقية والنقابية والإعلامية، وظلّ العمق الفاعل ساكناً ثابتاً مهيّئاً لرفض هذا الجسم السياسي الجديد الذي تدرّب على قمعه لا التفاعل معه والاستجابة لحكمه.
الحديث عن الجهاز السرّي لحركة النهضة تلهية وسخرية سوداء تتجاوز القضيّة الحقيقيّة، وتخفي السؤال المرّ في تونس. وهو تغييب لمناطق البحث الحقيقية التي تختفي فيها الإجابات عن سؤال الاغتيالات والإرهاب والتدخّل الخارجي والمال والنفوذ الجهوي.
الجهاز السرّي الحقيقي هو الجهاز الذي مكّن هيئة الدفاع عن الشهيدين، شكري بعيد ومحمد البراهمي، من وثائق قد لا تحمل حقائق في حد ذاتها بقدر ما تحمل موقفاً سياسياً أعاد رسم التحالفات القديمة المتجدّدة بين المكوّنات البنائية للنظام القديم الحيّ في عمق الدولة ومؤسساتها.
الجهازالسرّي الحقيقي هي الهيئة في علاقاتها بأطراف أمنية وإعلامية وسياسيّة وماليّة ونقابيّة وحقوقيّة، وهو النظام القديم الذي لا يزال فاعلاً وقادراً على الفعل بعيداً عن الثورة ومطالبها ومكاسبها، وهو كل العناصر المتحالفة لإسقاط الثورة، ومسار الانتقال الديمقراطي والحقيقة، كل الحقيقة.
مقالات أخرى
01 يناير 2019
13 ديسمبر 2018
20 سبتمبر 2017