الجندي الروسي والراقص التركي
لم أفهم مغزى "الحركة" التركية ضد عربدة الطائرات الروسية فوق المناطق الحدودية. بدا الأمر محاولة لجرِّ الروس إلى فخٍّ ما. كأنَ هناك من أوحى لأنقرة بهذا "الاستفزاز"، لجسِّ ردّ الفعل الروسي. هكذا بدا الأمر لوهلة. عزَّز هذا الاحتمال رفض أردوغان الاعتذار للكرملين، طالباً العكس. لكنَّ الدب الروسي لم "ينجر"، ارتفعت قهقعته (صوته، حسب لسان العرب) عالياً في البداية. أخذ نَفَسَاً عميقاً، ثم تراجع.. مؤقتاً، ربما. الغريب أن أردوغان الذي طالب الروس بالاعتذار عن "اختراقهم" أجواء تركيا تراوحت قبضته الملوّحة بالهواء بين الوعيد الشديد والتهدئة التي تشبه الطأطأة أمام عاصفةٍ محتملة. قال إنهم لم يكونوا يعرفون أن الطائرة التي اخترقت الأجواء التركية روسية. لو عرفوا ذلك ما أسقطوها! وها هو يطلب لقاء بوتين على هامش قمة المناخ في باريس، والأخير يتمنَّع. لا شيء، حتى الآن، وراء الأكمة. مجرد حادثٍ يحدث في أجواء متوترة، مثل التي تخيِّم في السماء السورية المزدحمة بالطائرات من كل جنس.. ثم تطويه مصالح الدول في أضابير "الأضرار الجانبية".
هل ظنَّ الأتراك أن الطائرة التي اخترقت حدودهم سورية، فقرروا ردَّ الصفعة الجوية التي وجهها لهم بشار الأسد، قبل ثلاث سنين، عندما أسقطت صواريخه طائرتهم إف 16 فوق المتوسط؟ أهذا ما يفسِّر قول الأتراك إنهم لو عرفوا هوية الطائرة الروسية ما أسقطوها؟ كلام الروس والأتراك مرتبكٌ، مثل اللخبطة والتداخل في السماء والأرض السوريتين، يُحاول المرء أن يفهم مغزاه من دون جدوى. ولكن حروباً كبرى كثيرة بدأت بحوادث "صغرى". منذ حرب طروادة التي بدأت بخطف "هيلين"، إلى اليوم. لحظة/ حادثة يمكن أن تفجّر حرباً أوسع نطاقاً مما هي عليه الآن. لكن الحروب ليست بالمدافع فقط. هناك أدواتٌ أخرى مساعدة، منها، مثلاً، استدعاء التاريخ وزجّه في المعركة. ليست هناك حربٌ من دون استخدامٍ ما للتاريخ. حتى الحروب التي تبدو بلا سياق (يصعب تصوّر ذلك) ينبغي صنع سياقٍ لها حتى تبدو مفهومةً، ولها أنصار ومتعاطفون. فلا تستقيم سرديات الحروب من دون سياق. فلكي يُدْفعَ الناس إلى الموت في الحرب يلزم تاريخ، يلزم سياق، تلزم قصة. يمكن للأتراك أن يستعيدوا تاريخهم الصراعي الطويل مع الروس، ويصنعوا، للحظة الراهنة، سياقاً متكاملاً ومتواصلاً كأنه لم ينقطع يوماً. حرب القرم جاهزة. الحرب العالمية الأولى ليست بعيدة جداً. وبمناسبة هذه الأخيرة، عاد الروس إلى نبش "أدبياتها" التي أكلها العث. فقد نشرت السفارة الروسية في لندن، على مواقعها في السوشيال ميديا، ملصقاً روسياً مهيناً للأتراك. يصوِّر الملصق، الذي يعود إلى أيام الحرب العالمية الأولى، جندياً روسياً ذا وجه أبيض وخدّين موردين وصحة جيدة يجلس، بزيِّه العسكري، على طبل، وأمامه عازف تركي ضئيل الحجم، ملتحٍ، قبيح الوجه، ذو أنف معقوف (على غرار صورة اليهودي النمطية)، يعتمر طربوشاً أحمر، يرقص مثل قردٍ أمام الجندي الروسي الضاحك.
واضح أن أرشيف الدول لا ينسى. في الوسع العودة إلى برقية كتبها مبعوث دبلوماسي مغمور من عاصمة مغمورة. وعلى الرغم من أن التاريخ يصحِّح، ببطء، السياسات، فيجعل ما كان مقبولاً بالأمس مرفوضاً، أو ممجوجاً، اليوم، فإن مخزون بعض الدول من الأخطاء، والتحيّزات القومية أو الدينية، يشقُّ على التصحيح. يتفق العالم، اليوم، على أن التنميط الهوياتي غير مقبول، لأنه غير حقيقي. وبهذا المعنى، لم يعد مقبولاً أن يُقال للأفريقي زنجي، ولا للصيني أصفر، كما لم يعد أحد يصوّر اليهودي بخيلاً، ذا أنف كبير معقوف، فمن يفعل ذلك (في الغرب مثلاً) يقع تحت طائلة المسؤولية القانونية، لكن هذا لم يمنع سفارة دولة عظمى، في دولة عظمى، من استعادة الصورة القيصرية العنصرية للأتراك.. الصورة التي رفضتها ثورة لينين قبل مائة عام، ورمتها في سلة مهملات التاريخ، ها هو يعيدها من يتوهَّم أنه قادر على استعادة نفوذ الاتحاد السوفيتي السابق. ولكن، كقيصر إمبريالي!