يدخل رئيس الحكومة التونسية المكلف، الحبيب الجملي، اليوم الإثنين، أسبوعه الثاني من المشاورات لتأليف حكومة جديدة، والتي يجريها في خضمّ معادلة صعبة للغاية، فيما لم تتضح إلى الآن أضلعها السياسية التي ستقوم عليها، فضلاً عن برامجها وتوجهاتها الكبرى.
وعلى امتداد الأسبوع الماضي، التقى الجملي بالجميع تقريباً، أحزاباً ومنظمات وجمعيات ونقابات، وحتى صحافيين وفنانين، فيما بدا وكأنه تعويم للمشاورات وتوسيعها لتشمل كل أطياف المجتمع، المعنية وغير المعنية بالحكومة. وظلّ الجملي يشدد للجميع على استقلاليته، وهو ما يبدو أنه نجح في إبرازه نسبياً إلى الآن، بالإضافة إلى نجاحه في الحد من حالة التوتر التي سبقت تعيينه، وخصوصاً من قبل "التيار الديمقراطي" وحركة "الشعب".
والتقى الجملي بكل الأحزاب الممثلة في البرلمان، الكبرى والصغرى؛ "النهضة" و"التيار الديمقراطي" و"حركة الشعب" و"ائتلاف الكرامة" و"تحيا تونس" و"الإصلاح الوطني"، وكذلك الكتل الصغيرة، مثل حركة "مشروع تونس" وحزب "الرحمة" وحركة "نداء تونس" وحزب "الاتحاد الشعبي الجمهوري" وحزب "آفاق تونس" وحركة "أمل وعمل" المستقلة، وشخصيات ومنظمات عديدة. وطلب رئيس الحكومة المكلّف من ممثلي الأحزاب والائتلافات التي التقاها المشاركة في تشكيل لجنة بين مختلف الأحزاب والمنظمات الوطنية لتحديد ملامح البرنامج العام للحكومة وتوجهاتها، كما بحث مقترح إعادة هيكلة الحكومة في سياق التقليل من عدد أعضائها ودمج الوزارات ذات الاختصاصات والمهام المتقاربة.
في السياق، قال المحلل السياسي حمزة المدب، في تصريح لـ"العربي الجديد"، إنّ الحبيب الجملي "لم يقدّم إلى الآن تصوراً واضحاً لتشكيل حكومته"، مشيراً إلى أنه "يقوم باستشارة كل الأحزاب من دون منح الأولوية لأحزاب بعينها وفق رؤية وتوجّه معيّنين، كما يستشير شخصيات مستقلة وصحافيين، وحتى فنانين، ووزراء سابقين".
وأكّد المدب أنّ الجملي "لم يقم بإنتاج خطاب ورؤية تضبط توجهه والأرضيّة التي ينوي وضعها لبناء الحكومة، وهو ما يجعلنا الآن في مرحلة ضبابية للغاية". وتابع أنّ "تشكيل الحكومة ليس مسألة حسابية، إذ من المفترض أن يكون ذلك ضمن مسار سياسي يستند بالأساس إلى تصور ورؤية، ويأخذ بعين الاعتبار طبعاً الأحجام في البرلمان، ولكن لا يجب أن يقف عند هذا الأمر"، مشيراً إلى أنّ "هذا كله مفقود إلى الآن ولا يمكن التكهن بأي سيناريوهات".
ولكن الملاحظ أنّ الجملي لا يستمع للحزب الذي رشحه لهذه المسؤولية، المتمثّل بحركة "النهضة"، إذ سبق لرئيسها رئيس البرلمان، راشد الغنوشي، أن أكد تمسّك حزبه بعدم المشاركة في حكومة تضم حزب "قلب تونس".
وأعاد المتحدث الرسمي باسم "النهضة" عماد الخميري تأكيد هذا التوجّه في تصريح تلفزيوني يوم الجمعة الماضي، قائلاً إنّ الحركة لن تتحالف مع حزب "قلب تونس". وأشار الخميري إلى أنّ رئيس الحكومة له الحق في إجراء مشاورات مع كل الأطراف التي يختارها، مشدداً على أنّ حركة النهضة "لم تتخل عن وعودها تجاه ناخبيها". ولفت إلى أنّ الاتصالات الأخيرة التي خاضتها "النهضة" مع "قلب تونس" اقتصرت على التفاهمات داخل مجلس النواب، وذلك بهدف تسهيل العمل البرلماني.
وعلى الرغم من أنّ هذا الكلام للخميري لا يبدو مقنعاً، لأنّ رفض التعامل مع أحزاب لديها شبهة فساد، يكون في كل مكان، في البرلمان وفي الحكومة وفي أي مجال، إلا أنّه يتضح أن عمليات سبر الآراء الأخيرة دفعت "النهضة" إلى مراجعة حساباتها أو إعادة تصويبها، فقد كشفت الاستطلاعات انحداراً غير مسبوق لشعبية الحركة ورئيسها، وعكست موجة غضب في صفوف قواعدها والمتعاطفين معها، ما أعادها بسرعة إلى المربع الأول، أي محاولة التحالف مع ما يسمى بأحزاب الخط الثوري، حتى وإن كان ذلك على مضض.
وبين شروط هذه الأحزاب التي تصفها "النهضة" بمحاولة ابتزازها، وبين ميول قواعد الحركة وشعاراتها التي رفعتها خلال الحملة الانتخابية، تبدو "النهضة" ومعها الجملي في وضع معقد للغاية، إذ إنّ الاقتصار على التحالف مع "التيار الديمقراطي" وحركة "الشعب" و"ائتلاف الكرامة" لا يشكل حزاماً سياسياً متيناً يمكنه الصمود أمام المعارضة القوية، ولا يتيح تمرير قوانين مهمة تستوجب أغلبية الثلثين. علاوة على أنّ هذه الأحزاب لا تتفق أصلاً في العديد من المبادئ المتعلقة بالثورات العربية وأحداث المنطقة، أي بملف السياسة الخارجية وخياراتها الكبرى، وكذلك في ملفات داخلية خلافية عديدة، ما يعني أنها لن تنجح في تشكيل تحالف صلب، فضلاً عن حرب التصريحات التي خاضتها شخصيات من هذه الأحزاب خلال الأسابيع الأخيرة.
ويبدو أنّ الجملي يريد أن يقنع الجميع بأنه مستقل عن حركة "النهضة"، وهو ما بدا عبر استقباله مرتين لحزب "قلب تونس"، إحداهما قبل تصريح الغنوشي وأخرى بعده، ولا أحد يعرف كيف ولماذا يتشاور مع هذا الحزب الذي تؤكد حركة "الشعب" و"ائتلاف الكرامة" و"التيار الديمقراطي" ضرورة عدم وجوده في الحكومة كي تشارك فيها، إلا إذا كانت "النهضة" تنبّه ضمنياً بأنها قد تستغني عن الجملي وتستبعده لهذا السبب، وهو ما سيتبين في الأيام المقبلة.
ومع تركيز الجميع على المسلك السياسي، يتناسى كثيرون أنّ البرلمان، ومعه هذه الأحزاب والكتل، ستشرع في مناقشة موازنة الدولة للعام المقبل، مع ما تحمله من خيارات يقف أكثرها ضدّ الشعارات التي ترفعها هذه الأحزاب وانتخبت على أساسها.
وفي السياق، لفت الخبير الاقتصادي آرام بالحاج، في حديث مع "العربي الجديد"، إلى أنّ "مؤشرات موازنة تونس التي بدأ البرلمان في مناقشتها لم تورد أي تفاصيل عن خطة الحكومة لسداد الديون ولا لتعبئة الموارد لتمويل الموازنة"، مشيراً إلى أنّ "تضخيم الموازنة بنحو 9 في المائة عن موازنة العام الماضي، يكشف ثقل الديون الموجب دفعها عام 2020، وكذلك تضخم كتلة الأجور مقابل ضعف في نسب النمو وتواصل تعطل القطاعات الخالقة للثروة".
وأضاف بالحاج أنّ "أي حكومة مهما كان لونها السياسي، ستكون مطالبة بالإجابة عن أسئلة اقتصادية مهمة من دون مواربة، وذلك في ما يتعلّق بالدين الخارجي والتحكّم في كتلة الأجور وزيادة الاستثمارات العامة في البلاد"، لافتاً إلى أنّ "صندوق النقد الدولي أجّل صرف شريحة القرض السادسة لتونس، في انتظار أن تتضح الرؤية السياسية في البلاد، وتكشف الحكومة الجديدة عن خياراتها الاقتصادية".
وأوضح بالحاج أنّ "صندوق النقد أصبح يتأخر بالأساس في صرف شرائح القرض المتفق عليه قبل نحو ثلاث سنوات، نتيجة تأخر تونس في تنفيذ الإصلاحات المطلوبة"، مشيراً إلى أنّ "معدّل التأخير في المراجعات الأخيرة يصل إلى 6 أشهر، وهو ما يضطر تونس إلى الاقتراض من المؤسسات المالية الدولية بشروط مجحفة حتى تفي بالتزاماتها الداخلية والخارجية".
واعتبر بالحاج أنّ "الخيارات الحكومية لسداد أقساط القروض المستحقة على المدى القصير محدودة جداً"، مشيراً إلى أنّ "إيرادات العملة الصعبة من عائدات التصدير غير قادرة على تغطية المبلغ المطلوب سداده من الديون". ورجّح أن تسدّد تونس أقساط الديون المستحقة، العام المقبل، عبر الاستدانة من السوق الدولية، خصوصاً أن الشرائح المتبقية من قرض صندوق النقد الدولي ستوجه نحو نفقات التسيير والأجور في الموازنة.
ولفت بالحاج إلى أنّ "الإيرادات من النقد الأجنبي توجه بالأساس نحو توريد المواد الأساسية"، مرجحاً أن تلجأ تونس إلى السوق المالية في أكثر من مناسبة لسداد أقساط الديون التي يحل أجلها. وأضاف أنّ "إيرادات النقد الأجنبي من السياحة وتصدير الموارد الزراعية والفوسفات لا تتجاوز 3 مليارات دولار وهي غير كافية لسداد الدين في ظرف تبتلع فيه الواردات القدر الأكبر من رصيد البنك المركزي من العملة الصعبة"، منتقداً بناء الموازنة على جملة من المغالطات، ولا سيما منها تضخيم الميزانية من دون وجود مقابل نمو حقيقي في الاقتصاد.
في ظلّ هذه المعطيات والحقائق الاقتصادية، يبقى السؤال عن أي تحالف حكومي يمكنه أن يغيّر الوضع، إذا لم تكن وحدته قوية ويتجه أساساً لوضع استراتيجيات بإمكانها قلب هذه المعطيات تدريجياً عبر اتخاذ قرارات صعبة كالتي أقرتها دول أخرى مرت في الصعوبات نفسها؟