الجماعات التكفيرية... تركة الإمارات والسعودية في عدن وتعز

09 اغسطس 2017
"فكر" ابن تيمية في مدينة المكلا (فرانس برس)
+ الخط -
قبل توسع نشاط الجماعات الدينية مطلع تسعينيات القرن الماضي، كان لدى اليمنيين، ولا سيما في محافظتي عدن وتعز في جنوب البلاد، اهتمامات بالفن والموسيقى والمسرح. فعلى سبيل المثال، كانت الاستديوهات تصدح بكل جديد للطرب. ولم تكن الثقافة الدينية في المجتمع تحول دون وجود ثقافة فنية، وجمهور يسمع أغاني كل من أحمد الآنسي وعبد الله السنيدار ومحمد مرشد ناجي وفيصل علوي، ومحمد جمعة خان، وأمل كعدل ومحمد سعد عبد الله، وأيوب طارش، وغيرهم من رموز الأغنية اليمنية. أما اليوم وأمام كل هذا الدمار الحاصل وبعدما أعادت الحرب صوت الجماعات المتشددة، أصبح المجتمع اليمني لا يعرف أحمد بن أحمد قاسم، وهو موسيقار يمني من محافظة عدن. لكن الجميع يعرف جيداً "قيادات وجماعات صناعة الوحشة" التي أعاد لها "التحالف العربي" المجد والنفوذ في أبرز المحافظات في اليمن.

وحتى وقت قريب، كان سوق الأغنية اليمنية منتعشاً. لكن مع اندلاع الحرب التي وصلت إلى المحافظات الجنوبية وبعد تحرير بعض هذه المحافظات، تسربت إلى الحياة اليومية فرق الجهاد وجماعات دينية متزمتة. فاندثرت الستريوهات وخرست الأغنيات ومات الفرح وارتفعت أصوات "كاسيتات" الوعظ المتشنج وصدى الملاحم. ومن قبل أيضاً، كان الناس ينتظرون جديد "أبوبكر سالم". واليوم ينتظرون جديد "أبو الحارث وأبو اليمامة". ولم تعد الحياة آمنة عموماً وأصبحت الجماعات المتشددة بمختلف مدارسها هي من تتحكم بالمشهد في محافظتي تعز وعدن. فقد انتشرت أخيراً، الجماعات التكفيرية في مدينة عدن وسيطرت على منابر المساجد فيها بالتزامن مع سيطرتها على أقسام الشرطة لتمارس سلطاتها تحت يافطة القانون، لكن بقوانين ودساتير وأعراف وأفكار غريبة على المدينة المعروفة بطابعها المدني على مر العصور. وتسلم عدد من الناشطين الشباب في مدينة عدن، أخيراً، رسائل تهديد بتوقيع "الدولة الإسلامية ولاية عدن"، تتوعدهم بالتصفية الجسدية إذا لم يكفوا عن الترويج للأفكار العلمانية، وتخيّرهم بين التوبة والقتل، وفقاً للعديد من الناشطين الذين باتوا يخشون حتى الحديث للإعلام عما يتعرضون له.

وتأتي هذه الرسائل التحذيرية بعدما قامت هذه الجماعات بتصفية ناشطين اثنين هما، محمد باطويل، الذي تم اغتياله بمدينة عدن في إبريل/ نيسان 2016 بعد تعرضه لتهديدات، واتهامه بالإلحاد بسبب آرائه التي نشرها على "فيسبوك" والتي فهم المهددون منها أنها تخالف الإسلام. والثاني هو الناشط أمجد عبدالرحمن، الذي تم اغتياله في منتصف مايو/أيار2017 من قبل مسلحين مجهولين أطلقوا عليه النار بعدما اقتحموا مقهى للإنترنت في مدينة الشيخ عثمان بعدن. وكان أمجد يمارس نشاطه السياسي والثقافي في الأوساط الشبابية ويدير "مركز الناصية الثقافي" الذي أسسه قبل فترة. كما قامت هذه الجماعات باعتقال الشاب إسحاق غلام وعزلته ثلاثة أيام لدفعه إلى "التوبة"، واشترطت عليه أداء فروض الصلاة في الجامع، وإلا فإنه سيقتل بتهمة العلمانية.

هذه السلوكيات الغريبة على مدينة عدن، تتبناها الجماعات التكفيرية في المدينة، وهي الجماعات التي قامت الإمارات بدعمها وتجنيدها واستخدامها في الحرب ضد الانقلابيين. وبعد تحرير مدينة عدن من الانقلابيين تمكنت هذه الجماعات بدعم من الإمارات من السيطرة على المدينة وبسط نفوذها فيها حيث تسيطر عليها أمنياً من خلال أقسام الشرطة وقوات الحزام الأمني التي يقودها الوزير المقال هاني بن بريك، والتي تمارس العديد من الاعتقالات والانتهاكات الخارجة عن القانون. وبدأت أخيراً بملاحقة ناشطين وإعلاميين من أصحاب التوجه اليساري بهدف تصفيتهم بحجة العلمانية التي أصبحت تهمة تستحق القتل بنظر تلك الجماعات.

وقال ناشطون في عدن إن الجهات الأمنية قررت التحفظ على عدد من الشباب بهدف حمايتهم أمنياً، بعد تلقيهم رسائل تهددهم بالتصفية في حال عدم التوبة، على الرغم من أن الجهات الأمنية تعلم تفاصيل هذه الجماعات المتطرفة لكنها لا ترغب بمداهمتها والتصدي لها. وبحسب مراقبين، فإن معظم هذه الجماعات التي تنشط في عدن والجنوب، تلقت دعماً من الإمارات والسعودية التي وجدت فيها الحليف الأول في اليمن. فقامت بتشكيلها وتجنيدها للحرب ضد الانقلابيين واستخدامها بعد ذلك للتخلص من الخصوم السياسيين والأطراف السياسية والحزبية الأخرى. وهذا الموقف يتسق مع الموقف الإماراتي والسعودي الرافض للأحزاب السياسية وممارسة العمل الديمقراطي.

كما انتقل سيناريو الاغتيالات من عدن إلى تعز، انتقل خلال الأيام القليلة الماضية أيضاً، الخطاب التكفيري الذي يستهدف بعض قوى الشرعية، إلى منابر المساجد في مدينة تعز. وألقيت خطب تكفيرية في عدد من مساجد المدينة وتم فيها تكفير الناصريين والاشتراكيين والبعثيين، الذين يشكلون قوى اليسار اليمني. وأثار ذلك استياءً في أوساط الإعلاميين والحقوقيين الذين اعتبروا ما يجري مؤشراً خطيراً على انتشار الفكر التكفيري في المدينة التي توصف بأنها حامل المشروع المدني في اليمن. وخلال الأسبوعين الماضيين، شهدت تعز جدلاً واسعاً على مواقع التواصل الاجتماعي بعد خطبة جمعة ألقاها خطيب يدعى الشيخ محمد الذبحاني، ويتبع لكتائب "حسم"، إحدى فصائل المقاومة الشعبية من التيار السلفي، في أحد مساجد مدينة تعز. وفي هذه العظة، قام الذبحاني بتكفير الناصريين والاشتراكيين والبعثيين والعلمانيين. وحرّض ضد قوى اليسار وضد المنظمات التي قال إنها مدعومة من دول أجنبية، داعياً السلفيين وحزب "الإصلاح" الذي يمثل "الإخوان المسلمين" في اليمن، إلى "نبذ الخلافات والتوحد لمواجهة قوى الرافضية واليهودية والنصرانية والعلمانية" على حد تعبيره.

هذه الخطب التي جاءت متزامنة في أكثر من مسجد بتعز، استجاب لها أنصار الجماعات المتشددة وبدأت حملات المضايقة ضد ناشطين وطلاب جامعيين بتهمة حملهم للأفكار الغربية والعلمانية والتي تتنافى مع القيم الإسلامية. وتعرض ناشطون شباب للتهديد من قبل مسلحين في حال استمرارهم بحمل هذه الأفكار.

في هذا السياق، يقول الطالب الجامعي شهاب عارف الهويش، لـ"العربي الجديد"، إنه فوجئ عقب الخطب التكفيرية، برفض أحد زملائه في الكلية الحديث معه واشترط عليه أن يتوب من الأفكار الغريبة التي يحملها وطالبه بأن يجدد إيمانه، متهماً إياه بالعلمانية.

وذكر مدير مكتب الأوقاف والإرشاد، الذي يعد الجهة الرقابية على الخطاب الديني في منابر المساجد بتعز، خالد البركاني، في معرض رده على تساؤلات "العربي الجديد"، أنه "سيتم التواصل مع الخطباء وتنظيم ندوة موسعة لهم لنقاش مثل هذه الظواهر، والخروج بميثاق شرف يلتزم به كافة الخطباء"، وفق تأكيده. ورأى متابعون للشأن اليمني أن هذه الحوادث تزيد من حجم المخاوف من أن يتمكن المتشددون والمتطرفون من التغلغل داخل المجتمع واستقطاب الكثير من الشباب للانضمام إلى صفوف الجماعات المتشددة، خاصةً مع حالة الغياب شبه التام للدولة وكذلك في ظل الوضع الاقتصادي السيئ، بالإضافة إلى حالة الفراغ التي يعاني منها الشباب، ما يجعلهم فريسة سهلة لاستقطاب الجماعات الإرهابية.

ومن وجهة نظر هؤلاء المتابعين، يُعَدّ الدين من أخطر الأسلحة التي يتم استخدامها في تأجيج الصراع وتفتيت النسيج الاجتماعي لمجتمع يوصف بأنه متدين ومحافظ كالمجتمع اليمني، نظراً لحالة التقديس التي يحظى بها الدين في هذا المجتمع، بالإضافة إلى حالة الإجلال والإكبار التي يحظى بها رجال الدين، ما يجعل الفتاوى الصادرة عنهم ذات أثر كبير في تغيير قناعات وأفكار العامة. ولا شك في أن حالة الجهل والفقر المنتشرة في المجتمع تزيد من ظاهرة تأثير الخطاب الديني المتطرف.

وتحدث رجل الدين، عمر دوكم، وهو أشهر الخطباء في تعز ويتميز بفكر متجدد، لـ"العربي الجديد"، قائلاً إن ظاهرة التكفير هي أحد تجليات الفوضى التي تعيشها المجتمعات العربية في جميع المجالات، وهي أيضاً حالة من حالات الإسقاط المجتمعي للاستبداد الذي تعيشه هذه الشعوب. وتساءل "هل ننتظر من مجتمع مورِسَ تجاهه القهر والعنف بشتى صنوفه أن ينتج الديمقراطية المجتمعية مثلاً أو الحرية الدينية؟". وبالنسبة له، فإن "الاختلاف محرّم، والمختلف مجرَّم، حتى على مستوى نفس الحزب أو الجماعة أو الإيديولوجية أو الطائفة". وأضاف أن "كل تلك الألوان من الاستبداد، إن صح التعبير، هي الوجه الثاني لعملة يستخدمها الحاكم؛ وجهها الأول الاستبداد السياسي، فثقافتنا السائدة هي مصادرة الآخر أياً كان هذا الآخر، إقصاؤه من المشهد، وهذه الثقافة الإقصائية لا ينفرد بها التكفيريون". وتابع أن الوجه الثاني يتمثل بـ"التكفير وهو من أخطر أشكالها ومن أكثرها صخباً وضجيجاً، وسبب ذلك أنه أكثرها إثارة للصدمة في وجدان الناس، لأنه يتوسل طابعاً دينياَ ولا يخفي وحشيته. بل صارت وحشيته وقسوته إحدى وسائله للتعبير عن نفسه"، وفق قول دوكم.

ويختم دوكم حديثه بأن "تحويل الصراع من سياسي إلى ديني ليس خطيئة محصورة في التكفيريين؛ بل هو موقف شبه عام تتسم به خطاباتنا التعبوية اليوم؛ بل يقع فيه الكثير من السياسيين وموجهي الرأي العام. وهذا من شأنه بالتضامن مع الخطاب التكفيري، أن يعمق التناحر والحروب المستدامة، وفي اليمن سيضمن استمرار الحرب حتى لو حلت سياسياً"، بحسب تعبيره.

ولا تُعَدّ ظاهرة استخدم المنابر والخطاب التحريضي في الحروب، وليدة اللحظة في اليمن الذي صار بيئة خصبة للفكر الوهابي منذ ثمانينيات القرن الماضي، حين تم تجنيد الآلاف وإرسالهم إلى أفغانستان لمحاربة الاتحاد السوفييتي وبتمويل سعودي ليتحولوا لاحقاً إلى ما بات يعرف بالأفغان العرب والذين تشكلت منهم معظم الجماعات التكفيرية.

وفي حرب صيف 1994، التي شارك فيها "المؤتمر الشعبي العام" وحزب "التجمع اليمني للإصلاح"، ذو التوجه الإسلامي، كحليف له، اجتاح هذا التحالف جنوب اليمن. وهناك ركّز حزب "الإصلاح" بشكل رئيسي على إرسال قياداته ومشايخه إلى المعسكرات لإلقاء الخطب التحريضية تحت غطاء الدين، والتي تدعو للجهاد ضد الاشتراكية والشيوعية. وأصدر بعض هؤلاء المشايخ فتاوى تكفيرية ضد الجنوبيين. ومن أشهر أصحاب فتاوى الحرب في عام 1994، القيادي في حزب "الإصلاح" عبد الوهاب الديلمي، الذي قال في فتواه "إننا نعلم جميعاً أن الحزب أو البغاة في الحزب الاشتراكي اليمني المتمردين المرتدين هؤلاء لو أحصينا عددهم لوجدنا أن أعدادهم بسيطة ومحدودة، ولو لم يكن لهم من الأنصار والأعوان من يقف إلى جانبهم ما استطاعوا فعل ما فعلوه في تاريخهم الأسود طيلة خمسة وعشرين عاماً، وكل الناس يعرفون في داخل المحافظات الجنوبية وغيرها أنهم أعلنوا الردة والإلحاد والبغي والفساد والظلم بكل أنواعه وصنوفه".

المساهمون