يرتدي تاريخ الفلسفة، من حيث هو تاريخ نظر العقل في العقل، أهمية استثنائية. فقد غدا، دون سائر الفروع التاريخية، موضوعاً لنفسه: فقد وُضعت مؤلّفات وعقدت ندوات عالمية حول تاريخ تاريخ الفلسفة.
وابتداءً من القرن التاسع عشر، قرن تمخُّض المركزية الإثنية الأوروبية، بات تاريخ الفلسفة مركزاً لصراع أنثروبولوجي. فالحضارة الأوروبية الغربية، التي قرأت نفسها حضارة عقلٍ مُطلق، أعادت على ضوء هذه القراءة النرجسية قراءة تاريخ الفلسفة. وقد كانت النقطة المركزية في إعادة القراءة هذه ما لا نتردّد في أن نسمّيه تغريب Occidentalisation العقل اليوناني، بوصفه العقل المؤسّس للحظة ميلاد الفلسفة.
فهذا العقل، الذي لا يقبل فصلاً في نشأته وتطوّره عن إطاره التاريخي والجغرافي في الحوض الشرقي للبحر الأبيض المتوسّط، جرى فصله عن منبعه وروافده وحُوّل مجراه، في نوع من مصادرة يعزّ مثيلها في تاريخ الأنثروبولوجيا الحضارية، نحو الغرب الأوروبي الذي لم يُسهم في تغذيته - في حينه - بقطرة واحدة.
ولسنا ههنا بصدد تفكيك لعملية تغريب العقل اليوناني التي كنا أفردنا لها فصلاً بتمامه في "نظرية العقل". ولكن ما يهمّنا أن نلاحظه الآن هو أن هذه الجغرافية الفلسفية الخيالية، التي أملتها الاستيهامات الغربية للمركزية الإثنية الأوروبية، قد اصطدمت، عند التصدّي لرسم خريطتها الفعلية، بعقبة كأداء: فنهر الفلسفة اليونانية، الذي انتهى فعليّاً إلى أن يصبّ في المجرى الأوروبي الغربي، ابتداءً من القرن الثاني عشر، كان قبل ذلك قد مرّ بـ "تحويلة" شرق أوسطية لا سبيل إلى المماراة فيها: الحضارة العربية الإسلامية التي كانت هي الأخرى - مع استطالتها الفارسية - حضارة فلسفة، في مظهر من مظاهرها على الأقل.
وبما أن هذه التحويلة العربية الإسلامية لنهر الفلسفة بدت وكأنها تشكّل خرقاً للاحتكار الأوروبي الغربي لامتياز "التفكير بالعقل في العقل"، فقد جرى إما إغفالها في العديد من تواريخ الفلسفة المتداولة، وإمّا - وهذا أدهى - إنكارها والطعن في "واقعيتها".
أبرز من تصدّى لمهمّة الإنكار هذه، هو بلا أدنى شك إرنست رينان (1823 - 1892)، أحد كبار معماريي المركزية الإثنية الأوروبية وصائغ أسطورة تفوّق الجنس الآري ودونية الجنس السامي في القرن التاسع عشر. فعملاً بدعواه من أنّ "البحث الشجاع والفلسفي عن الحقيقة" هو "قسمة العرق الهندي - الأوروبي"، ومن أن الجنس السامي لم يؤت "ملكة النظر العقلي"، فقد أنكر وجود فلسفة عربية، قائلاً قولته المشهورة: "من العسف أن نطلق اسم فلسفة عربية على فلسفة لا تعدو أن تكون استدانة من اليونان وما كان لها أي جذر في شبه الجزيرة العربية. فهذه الفلسفة مكتوبة بالعربية ليس إلا، ثم إنّها لم تزدهر إلا في الأجزاء النائية من الإمبراطورية الإسلامية، في إسبانيا والمغرب وسمرقند؛ وبدلاً من أن تكون نتاجاً طبيعياً للروح السامي، فقد مثّلت بالأحرى رد فعل عبقرية فارس الهندية - الأوروبية على الإسلام؛ أي على ذلك النتاج الأكثر خلوصاً للروح السامي".
وبدون أن نكون معنيين هنا بتفنيد الدعوى الرينانية القائمة على ركيزة من عرقية لغوية، فإننا لا نملك إلا أن نلاحظ أنها تبطن تناقضاً داخلياً عميقاً. فهي إذ ترمي الفلسفة العربية بأنها مكتوبة بالعربية ليس إلا، تتجاهل أن الفلسفة اليونانية نفسها ما كانت يونانية، بالمعنى الإثني للكلمة، بقدر ما كانت مكتوبة باليونانية.
وإذا كان رينان يلاحظ أنه "بين الفلاسفة والعلماء الموصوفين بأنهم عرب ما كان ثمة وجود تقريباً إلا لواحد فقط من أصل عربي هو الكندي، بينما كان سائر الآخرين فرساً، ومما وراء النهر، وإسباناً، ومن أهالي بخارى وسمرقند وقرطبة وإشبيلية"، فإننا نستطيع أن نلاحظ بدورنا أن أكثر الفلاسفة والعلماء الموصوفين بأنهم يونانيون، ما كانوا يونانيين ولا من أهالي أثينا وشبه جزيرة الأتيكي، وأن أثينا نفسها لم تنجب سوى فيلسوفين اثنين (سقراط وأفلاطون)، وأن معظم الفلاسفة "الإثنيين" كانوا، على حد تعبير نيتشه، من "الأغراب".
وإذا كان العرق، كما يفترض رينان، مقولةً لغوية، فكيف يمكن أن يصنّف عشرات الفلاسفة من ذوي الأصول السورية أو المصرية الذين كتبوا باليونانية في عداد الجنس الآري، ثم يمتنع عن تصنيف عشرات الفلاسفة من ذوي الأصل الفارسي أو الصغدي في عداد الجنس السامي مع أنهم كتبوا بالعربية؟ فلماذا تُحضر اللغة في الحالة اليونانية ويُغيَّب العرق؟ ولماذا تُستذكر لفلاسفة الإسلام أصولهم الإثنية وتُنسى لفلاسفة اليونان الأصول عينها؟
بيد أن هذا التناقض المباطن للأطروحة الرينانية لم يمنع دعوى العدمية الفلسفية السامية أو العربية أن تجد أنصاراً لها في صفوف من أرّخوا من المفكّرين العرب للحضارة العربية الإسلامية وللعقل العربي الإسلامي. فأحمد أمين نفسه، على ريادته للتأريخ للحياة العقلية في الإسلام، لا يتردّد في الجزم بأن فلاسفة الحضارة العربية الإسلامية "من أمثال الفارابي وابن سينا وابن رشد" كانوا "كالمفوضية اليونانية في البلاد الإسلامية".
أما عبد الرحمن بدوي، الذي أدّى خدمات جلى للفلسفة العربية الإسلامية تأريخاً ودرساً ووصلاً بالكشوف الاستشراقية، فقد غلا في دعوى العدمية الفلسفية الإسلامية إلى حد تحويره حديثاً موضوعاً على لسان الرسول ليقول إن الفلسفة ولدت في ديار الإسلام غريبةً وماتت غريبة. بل إنه، في تقديمه لترجمة بعض مقالات كبار المستشرقين عن مصائر التراث اليوناني في الحضارة العربية الإسلامية، يصدر حكم النفي القاطع التالي: "الفلسفة منافية لطبيعة الروح الإسلامية. لذا لم يُقدّر لهذه الروح أن تنتج فلسفة، بل ولم تستطع أن تفهم روح الفلسفة اليونانية وأن تنفذ إلى لبابها".
ورغم الاحتجاج الصارخ من قبل أحدث مؤرّخي العقل العربي، عنينا محمد عابد الجابري، على اللاسامية الرينانية المعمّمة، فإنه يعود إلى تبنّيها "إبستمولوجياً" ويعيد إخراجها في صورة عنصرية جغرافية مخصّصة. فهو لا ينكر أن نهر الفلسفة اليونانية قد قام بتحويلة شرق - أوسطية، ولكنه لا يقرّ بهذه الحقيقة الواقعة التاريخية إلا ليضيف أن العقل اليوناني "البرهاني" قد تَعَرْفَن وتَهَرْمَس وتَغَونَص، بقدر ما تَمَشْرَق، ولم يقيض له أن يستعيد عقلانيته إلا بقدر ما عاد يتمغرب - بعد طول تخبّط في مستنقع اللاعقلانية المشرقية - ويعيد تكوين نفسه في "لحظة تأسيس ثانية" في "المشروع الثقافي المغربي - الأندلسي" كما تجسّد في "نقدية ابن حزم وعقلانية ابن رشد وأصولية الشاطبي وتاريخية ابن خلدون". وليس يخفى الدرس: فالإقليم، مثل العرق عند رينان، يتجوهر ويغدو بذاته عامل عقلانية أو لاعقلانية.
وهذا لا يعني أن الإقليم قدر نهائي. فلئن يكن المشرق قد استعصى على العقلانية، فإن المغرب لم يستعص بالمقابل على اللاعقلنة. فقد انتهى به الأمر، تحت ضغط العرفان المشرقي الذي أخذ شكل جائحة، إلى أن يتمشرق. ومن ثم ماتت فيه الفلسفة مثلما كانت ماتت في المشرق بعد الضربة القاصمة التي كان سدّدها إليها الغزالي.