الجزيرة الأيرلندية بين تحولات انتخابية و"بريكست": دوافع للوحدة؟

29 فبراير 2020
حقق "شين فين" نتيجة غير مسبوقة في الانتخابات(جيف ميتشل/Getty)
+ الخط -

شهدت الخريطة السياسية في الجزيرة الأيرلندية تحوّلات انعكست تجلياتها في تراجع هيمنة حزب "الاتحاد الديمقراطي" في أيرلندا الشمالية، وصعود شعبية حزب "شين فين" في الجمهورية الأيرلندية، لترفع هذه التحوّلات السياسية، إلى جانب مسألة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، من التوقعات باقتراب الجزيرة الأيرلندية من التوحيد، بعد أكثر من مائة عام على تجزئتها. ويجادل البعض بأن نتائج الانتخابات الأخيرة في شطري الجزيرة ما هي إلا انعكاس لعدم رضى الناخبين عن أوضاعهم المعيشية، ولا علاقة لها بتوحيد الجزيرة.

وكان حزب "شين فين" اليساري، المطالِب بتوحيد الجزيرة، قد حقق نتيجة غير مسبوقة في الانتخابات البرلمانية التي جرت في الجمهورية الأيرلندية بداية الشهر الحالي، لينهي بذلك هيمنة حزبي يمين الوسط على الحكومة في دبلن منذ نحو قرن من الزمان. وبينما نجح "شين فين" في حصد 25 في المائة من الأصوات، كانت حصة حزب "فيني غايل" 22 في المائة، و"فيانا فايل" 21 في المائة. إلا أن النظام الانتخابي الأيرلندي منح "فيانا فايل" 38 مقعداً في البرلمان، مقابل 37 لـ"شين فين"، و35 لـ"فيني غايل"، الذي يتزعمه رئيس الوزراء الأيرلندي ليو فارادكار.

وتمتلك فكرة توحيد الجزيرة الأيرلندية دعماً من الحقائق على الأرض. فقد صوّتت أيرلندا الشمالية لصالح البقاء في الاتحاد الأوروبي خلال استفتاء بريكست في العام 2016، بخلاف التوجّه العام البريطاني. فأيرلندا الشمالية تحصل على 711 مليون يورو سنوياً من الاتحاد الأوروبي لدعم الزراعة وتعزيز السلم الأهلي والتنمية الثقافية في الإقليم. أما الحدود التي تفصل بين شطري الجزيرة، والتي كانت نقاطاً عسكرية تشكل محط توتر، فقد ساهمت حرية التنقل في الاتحاد الأوروبي في حلها، ورفعت قيمة تبادل الصادرات المتجهة من الشمال إلى الجنوب الأيرلندي إلى 4 مليارات يورو سنوياً.

وبينما كان الاتحاد الأوروبي وبريطانيا قد أعربا عن تعهدهما بالحفاظ على الحدود مفتوحة بين شطري الجزيرة، إلا أن طبيعة الاتفاق التجاري بين بروكسل ولندن سترسم شكل الحدود وطبيعتها، نظراً للحاجة إلى نقاط تفتيش جمركية على البضائع العابرة للحدود، والتي لا يشملها أي اتفاق تجاري بين الطرفين يحدده نوع من التوافق التنظيمي. ويرى "شين فين"، الذي يمثل الجمهوريين في أيرلندا الشمالية، ويشارك في تقاسم السلطة في بلفاست، أن اتفاقية الجمعة العظيمة، التي أنهت الحرب الأهلية في الإقليم في العام 1998، تسمح لسكانه بإجراء استفتاء على البقاء في اتحاد مع التاج البريطاني. لكن الاتفاقية تمنع تكرار الاستفتاء أكثر من مرة كل سبع سنوات في حال فشله.

وكانت الانتخابات العامة في بريطانيا، نهاية العام الماضي، قد أسفرت أيضاً عن تراجع دعم الحزب "الاتحادي الديمقراطي"، المؤيد للتاج البريطاني، وشريك المحافظين في البرلمان البريطاني. فقد خسر "الاتحادي الديمقراطي" مقعدين من مقاعده العشرة، بينما حافظ "شين فين"، وهو أكبر الأحزاب القومية الأيرلندية في بلفاست، على مقاعده السبعة. لكن التحول كان في صعود حزب "العمال الديمقراطيين الاشتراكيين"، وهو حزب قومي أيرلندي، ليكسب مقعدين في البرلمان البريطاني. أما حزب "التحالف"، الذي يفترق عن الرؤية الطائفية للتوزع السياسي في أيرلندا الشمالية، فقد نجح في دخول برلمان وستمنستر بمقعد وحيد. لكن العنصر الأهم في هذه النتائج أن أيرلندا الشمالية، ولأول مرة في تاريخها، تنتخب عدداً أكبر من النواب القوميين الأيرلنديين من الاتحاديين المؤيدين للتاج البريطاني.


كما أن قراءة طائفية لنتائج استفتاء بريكست تدعم نظرية وجود تأييد لتوحيد الجزيرة. فقد كانت نتيجة الاستفتاء في أيرلندا الشمالية تأييد 56 في المائة من الناخبين للبقاء في الاتحاد الأوروبي. وكان "الاتحادي الديمقراطي" البروتستانتي قد دعم بريكست، بينما دعم "شين فين" الكاثوليكي البقاء في الاتحاد الأوروبي. إلا أن المحاضر في جامعة ليفربول، جوناثان تونج، والمختص في الشؤون السياسية الأيرلندية، يحذر من الانسياق خلف هذه التفسيرات. ويقول تونج، في حديث مع "العربي الجديد": "لقد أبلى شين فين حسناً في الجمهورية الأيرلندية، لأنه عرض بديلاً يسارياً للسياسات المرهقة الخاصة بفيني غايل وفيانا فايل، اللذين هيمنا لوقت طويل بسياسات متشابهة". وأضاف "يعد الشين فين الخيار المفضل لدى القوميين الكاثوليك في أيرلندا الشمالية، ولعقدين من الزمان تقريباً، ومنذ وقف إطلاق النار الذي وقعه الجيش الجمهوري الأيرلندي". وتابع "أعتقد أن استفتاء في الجنوب الأيرلندي سيؤدي إلى أغلبية لصالح توحيد الجزيرة. ولكني أعتقد أن استفتاء في شمال الجزيرة لن يكون في صالح توحيدها. لا يزال أمام شين فين تحدي إقناع المزيد من سكان الإقليم، الذين لا يصفون أنفسهم بأنهم اتحاديون أو قوميون، والذين يفضلون بقاء الوضع الحالي على ما هو عليه".

وبالفعل فإن أيرلندا الشمالية تشهد تحولات في توجهها السياسي بعيداً عن الانقسام الطائفي المعهود. فهناك العديد من المحسوبين على الاتحاديين البروتستانت ممن يجدون مصالحهم الاقتصادية، والتزاماتهم العقائدية متوافقة مع عضوية الاتحاد الأوروبي. ويقلق هؤلاء من التشويش الذي سيجلبه بريكست على الاقتصاد بشكل عام ومصالحهم بشكل خاص. كما تجد منهم من يؤيد القيم التقدمية التي يمثلها الاتحاد الأوروبي، فيما يعكس صعود جيل جديد من الاتحاديين يقترب بشكل مضطرد من الوسط السياسي. وتؤكد انتخابات العام 2019 هذا التوجه الذي يعيد رسم الحدود السياسية على أسس اقتصادية والعدالة الاجتماعية بعيداً عن الهويات الطائفية الثقافية والعرقية.
ويبدو أن "شين فين"، بقيادة ماري لو ماكدونالد، خليفة جيري آدامز في زعامة الحزب منذ العام 2018، قد استوعب هذا التحول الاجتماعي، وليس فقط في أيرلندا الشمالية بل أيضاً في جنوبها. فالبرنامج الانتخابي للحزب لم يقتصر على الهويات التقليدية بل تبنّى سياسات معاصرة تقدمية، مثل حقوق الإجهاض والمساواة والحماية البيئية واحترام حقوق الأقليات، وهو ما رفع من نسبة تأييده الإجمالية في أيرلندا الشمالية، لكن لا يزال أمامه الكثير من الجهد لإقناع المزيد من سكان الإقليم بالانفصال عن التاج البريطاني. ويتزامن ذلك أيضاً مع تراجع كبير لدور الكنيسة الكاثوليكية في شطري الجزيرة، وهو ما فاقمت منه الفضائح المتكررة، التي شملت الاعتداء الجنسي على الأطفال. كما كانت الكنيسة الكاثوليكية في طليعة الحركة المعارضة لزواج المثليين والإجهاض، وهما قضيتان نالتا الدعم الواسع بين الأيرلنديين.

كما أن "شين فين" أبلى حسناً في الجمهورية الأيرلندية، خصوصاً بين الشباب، لأن برنامجه السياسي خاطب همومهم الحياتية. فقد تعهد الحزب ببناء 100 ألف وحدة سكنية جديدة، وتجميد الإيجارات لثلاث سنوات، وزيادة دعم قطاع التعليم، إضافة إلى إسكان المشردين وتطوير القطاع الصحي وفرض الضرائب على الأثرياء. وتعاني أيرلندا الشمالية من قضايا مماثلة، حيث ينتظر 300 ألف مواطن على قوائم المراجعات الطبية. بينما شهد القطاع الصحي إضراب 15 ألف عامل فيه احتجاجاً على ظروف العمل.