وجددت الجزائر، أمس الأربعاء، استعدادها لاحتضان الحوار الوطني الليبي - الليبي بهدف التوصل إلى حلٍّ سياسي للأزمة الراهنة في هذا البلد، مطالبة بوقف تدفق السلاح إلى الداخل الليبي بسبب مخاطر تتعلق بإمكانية وصوله إلى المجموعات الإرهابية النشطة في منطقة الساحل الأفريقي. وكان الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون قد كشف في وقت سابق، بناء على تقارير استخبارية، أنه "بعد شهر من مؤتمر برلين الليبي (عقد في يناير/ كانون الثاني الماضي)، أدخلت ثلاثة أطنان من الأسلحة إلى ليبيا، وهناك أطراف تقوم بتغذية الأزمة عبر توريد السلاح ومنع إيجاد حل وحوار ليبي - ليبي".
وأكد وزير الخارجية الجزائري صبري بوقادوم، أمس، في رسالة بمناسبة يوم أفريقيا، استعداد بلاده لاحتضان الحوار الليبي، "ومواصلتها جهودها من أجل لمّ شمل الفرقاء وتقريب وجهات نظرهم، وتأكيدها على الدور المحوري الذي يجب أن تلعبه دول الجوار والاتحاد الأفريقي في المسار الأممي لتسوية الأزمة الليبية". وشدد بوقادوم على انشغال الجزائر "البالغ إزاء التطورات الخطيرة التي شهدتها ليبيا في الأسابيع الأخيرة"، مشيراً إلى أنها "تؤكد للأسف تضارب الأجندات الإقليمية والدولية التي يبدو أنها لا تتفق إلا على إبقاء ليبيا على حالة الفوضى، مسرحاً للحروب بالوكالة، وساحة لتصفية الحسابات على حساب دماء أبناء الشعب الليبي الشقيق".
ويشير تصريح بوقادوم إلى إعادة إطلاق الجزائر لمساعيها السابقة التي كانت قد باشرتها في شهري يناير/ كانون الثاني وفبراير/ شباط الماضيين، بهدف عقد مؤتمر حوار ليبي - ليبي في الجزائر، لكن التطورات العسكرية والسياسية في ليبيا وأزمة كورونا كما التدخلات الإقليمية، أدت إلى إرجاء هذا المسعى.
ويرى أكاديميون جزائريون مهتمون بالملف الليبي في شقيه السياسي والميداني، وفي العلاقة بالموقف الجزائري، أن الظرف بات مناسباً وناضجاً لإقدام الجزائر على خطوة سياسية باتجاه طرح تصورها للحل السياسي في ليبيا، وبدء التفكير الجدّي في الدعوة لعقد ما يصفونه بـ"مؤتمر برلين 2" في الجزائر، بعد فشل الأول في كبح الاقتتال في ليبيا، بسبب المعطيات الميدانية التي لم تكن مؤهلة لتقبل الحل السياسي. ويعتبر هؤلاء أن مجمل أطراف الصراع الليبي أصبحت اليوم بحاجة إلى سترة إنقاذ سياسية، مع الحفاظ على حدّ أدنى من مصالحها، وأنه يمكن للجزائر أن تلعب هذا الدور بامتياز.
وفي هذا السياق، رأى الباحث وأستاذ العلوم السياسية في جامعة ورقلة، جنوبي الجزائر، مبروك كاحي، أن "الوضع الراهن في صالح الجزائر، ما دامت أكدت على موقفها المتمسك بشرعية الحكومة الوفاق بقيادة فائز السراج، وبعدما أصبح اللواء المتقاعد خليفة حفتر في موقف ضعف، فيما تميل الدفة لصالح الوفاق". واعتبر الباحث، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن هذه المعطيات "تشكل فرصةً مناسبة لفرض الحل السياسي في ليبيا"، وأنه "ينبغي على الجزائر الاستفادة من التقارب مع إيطاليا وتركيا لفرض حلٍّ واقعي" في هذا البلد، مشيراً إلى أنه يتعين عليها "الدعوة إلى عقد مؤتمر برلين 2، ولم لا في الجزائر". ولفت في هذا الخصوص، إلى أن المؤتمر "قد لا يعقد بالضرورة على مستوى رؤساء دول، لكن على مستوى وزراء الخارجية، لتباحث الوضع".
واعتبر كاحي أن "الدول المتورطة مع حفتر قد تحتاج اليوم إلى هكذا اجتماع، للتخلص منه، ولرفع الحرج عنها، خصوصاً مصر. وفي هذه الحالة، يصبح اجتماع الجزائر بالنسبة لهذه الدول سفينة إنقاذ". وموضحاً رأيه بالنسبة للموقف المصري، رأى الخبير الجزائري أن "القاهرة مثلاً، ستفقد الكثير إذا لم تجلس إلى طاولة المفاوضات الليبية، فهي في موقف ضعف، بعدما راهنت على رجل فاشل (حفتر)، فيما فرضت تركيا وجودها". ورجّح كاحي أن تكون المكالمة الهاتفية التي جرت قبل يومين بين الرئيسين الجزائري عبد المجيد تبون والتركي رجب طيب أردوغان، والتي تمحورت حول الأزمة ليبية، قد حملت هكذا توجه.
وفي السياق، حثّت حركة "البناء الوطني" (من أفرع "إخوان" الجزائر) الحكومة والدبلوماسية الجزائرية على تفعيل جهود ومقتضيات الدور المحوري للجزائر، ما يتطلب ضرورة الحضور الإقليمي الفاعل باتجاه حل الأزمة الليبية.
ويعتقد مراقبون يرصدون تطورات الوضع في ليبيا، والمواقف الإقليمية المرتبطة به، أنه صار أكثر ملاءمة لإطلاق تحركٍ سياسي جزائري أو إقليمي، خصوصاً أن رئيس مجلس النواب الليبي المنعقد في مدينة طبرق، عقيلة صالح، كان طرح في وقت سابق مبادرة حلٍّ سياسي، تتعلق بإعادة تشكيل مجلس رئاسي مكون من ثلاثة أعضاء، وحكومة مستقلة، قبل الذهاب إلى انتخابات نيابية. وتتقارب هذه المبادرة في شكلها العام مع تصور كان تبون قد كشف عنه بداية مايو/ أيار الحالي، عندما تحدث في حوار تلفزيوني عن أن بلاده كانت تملك مبادرة سياسية حصلت على موافقة جزءٍ غالب من القوى والقبائل الليبية، قبل أن تتدخل أطراف إقليمية لاستبعادها. وقال تبون إن بلاده "تملك تصوراً لحلّ الأزمة الليبية، وذلك عبر تشكيل مجلس وطني مؤقت يتولى تشكيل حكومة مؤقتة، ومن ثمّ الدخول في الشرعية، وليس لنا أي مطامع في ليبيا، وكنا قاب قوسين أو أدنى من حلّ الأزمة، لكن أطرافاً إقليمية أعاقت الحل بسبب حسابات جيوسياسية". وشدد على أن "الجزائر ستكون شريكة بالضرورة في أي حلّ في ليبيا، ولن يفرض أي حلّ من دون موافقتها ومشاركتها".
وفي السياق، رأى مدير القسم الدولي في صحيفة "الخبر" الجزائرية، رضا شنوف، في تصريح لـ"العربي الجديد"، أن "التطورات الأخيرة في ليبيا، وميلان كفّة المعادلة العسكرية لصالح حكومة الوفاق، وكذلك في ظلّ انكشاف ظهر حفتر في الشرق بعد مبادرة صالح، بالإضافة إلى الموقف الأميركي المتقدم (دعم الوفاق)، ساهمت كلّها في تشكل وضع جديد في ليبيا، يمهد لبروز تسويات على المدى المنظور". وأضاف شنوف أن هذه التسويات "قالت الجزائر إنها يجب أن تكون حاضرة فيها"، معتبراً أن بلاده "في ظل هذه التطورات تبدو مجبرة على التنسيق مع الأطراف الليبية ومع القوى الخارجية التي تصنع المشهد الليبي، من أجل بلورة حلول تخدم الليبيين، وتراعي مصالح ومطالب دول الجوار". وباعتقاد الصحافي الجزائري، فإن بلاده "يمكن أن تدعو إلى اجتماع جديد، وتنسق مع الدول الفاعلة لالتئامه، خصوصاً أن مواقفها السابقة تتقاطع مع ما وصل إليه حالياً الوضع في ليبيا، فهي تعتبر طرابلس خطاً أحمر، ورفضت إقصاء أي طرف ليبي، داعية إلى حلٍّ ينتجه الداخل". ولفت شنوف إلى أن تنسيق الموقف بين الجزائر وتونس "يمكن أن يلعب أيضاً دوره كحجر زاوية في رسم التسوية الليبية، التي تراعي مصلحة الدولة الليبية المنشودة وآمال شعبها، ووفق مصالح دول الجوار"، لا سيما مع اقتراب موعد الزيارة المرتقبة للرئيس الجزائري إلى تونس، والتي كانت مقررة في مارس/آذار الماضي، وأرجأت بسبب وباء كورونا.
في تقاطعات المشهد الليبي، تبدو الجزائر أكثر دول المنطقة تأهيلاً للعب دور سياسي، ليس فقط لكونها حافظت بقدر الممكن على مسافة واحدة من طرفي الصراع في ليبيا، على الرغم من اعترافها بشرعية حكومة السراج وإدانتها لهجوم حفتر على العاصمة طرابلس، لكن أيضاً لعلاقاتها المتزنة مع دول تتقاطع مصالحها في ليبيا، وتلعب دوراً في الوضع الراهن. من هذه الدول، تركيا التي تتقاسم الموقف ذاته مع الجزائر في رفض هجوم حفتر على طرابلس، وروسيا التي تُعتبر حليفاً عسكرياً، وكذلك الإمارات وإيطاليا وألمانيا، إضافة إلى علاقاتها مع الصين كفاعلٍ أممي. ويدرج محللون هذه العلاقات، كجزء من عوامل سياسية رافعة للدور الجزائري المحتمل.
وفي السياق، رأى الباحث والمحلل السياسي عمار سيغة إمكانية استحضار "طبيعة العلاقات الودية التي تتمتع بها الجزائر مع السعودية والإمارات، فأبوظبي لديها مصالح اقتصادية وتجارية كبيرة في الجزائر" وشراكة استراتيجية حتى مع الجيش الجزائري (يقصد كصنع العربات العسكرية في الجزائر)، معتبراً في الوقت ذاته أن "أي دور مقبل للجزائر سيتناغم مع الاتفاق التركي الليبي بشأن الدفاع عن طرابلس". هذا بالإضافة، وفق قوله، إلى التوافق الجزائري - الإيطالي بشأن الصراع في ليبيا، والذي "يصب كله في دعم حكومة الوفاق، والتي من شأنها ضمان حماية المصالح الاقتصادية الجزائرية الإيطالية نظراً لعبور أنبوب غاز جزائري على منطقة مليتة القريبة من الزاوية". وتوقع الباحث في حديثه لـ"العربي الجديد" أن "يكون دور الجزائر أعمق وأكبر خلال المرحلة المقبلة، خصوصاً بعد نزوع أطراف إلى الرغبة في العودة إلى طاولة المفاوضات، وإمكانية رضوخ حفتر للشروط التي ستحد من نفوذ الإمارات والسعودية في ليبيا".
في الغالب، يظل القسم الأكبر من الجهد الدبلوماسي للجزائر إزاء ليبيا غير معلن، ولا يمكن الحديث حالياً عن كيفية بلورته، أو عن خطة الجزائر الخاصة بتصميم دورها في مرحلة ما بعد سيطرة الوفاق على قاعدة الوطية، لكن الثابت بحسب المعلومات المتوافرة، أنه جهد لم ينقطع، ولو أن الأزمة الوبائية قد أعاقت اندفاعته. هذه الجهود قد تتجدد اليوم، لا سيما في ظلّ توافق الموقفين الرسمي والشعبي في الجزائري من الأزمة الليبية.