الجزائر... هل تكسر صلابة النقابات عناد الوزيرة؟

21 فبراير 2018
+ الخط -
تقف ساعة المدرسة الجزائرية على مفترق طرق حاسم ومتعدد الاتجاهات أذهل مرتاديها حيرة في الوجهة التي ينبغي عليهم السير فيها، وعلى بعد أقل من ثلاثة أشهر من امتحانات مصيرية تقرر مستقبل التلاميذ؛ يتحسس الأولياء نبض قلوبهم المضطربة كمداً وتحسراً على فلذات الأكباد، وهي بين فكي كماشة تزداد قبضتها وتأبى أن ترخي فكيها وفي منتصف قبضة حديدية بين الوزارة و المجلس الوطني المستقل لمستخدمي التدريس للقطاع ثلاثي الأطوار للتربية المعروفة اختصاراً بـ"كنابست"، يعاند طرفاها بعضهما البعض ولا يوجد أدنى مؤشر على أن أحدهما سيتراجع قيد أنملة إلى الوراء..

لقد عانقت الأنوف عنان السماء وبلغت قلوب الأولياء الحناجر وزاغت بهم الأبصار، وبدخول الإضراب أسبوعه الثالث تزداد معاناة التلاميذ من وطأة التفكير في ما ينتظرهم بعدما ينجلي غبار المعركة بين الوزيرة وأساتذتهم؛ فأحلى الخيارين مر بالنسبة لهم، وفي حال ثبوت رؤية هلال السنة البيضاء ستكون الكارثة وتحل اللعنة وسيفقد الأبناء سنة من أعمارهم الثمينة دونما أي ذنب أو جرم ارتكبوه..

أما في حال تم التوصل إلى حل بين طرفي الأزمة واستؤنفت الدراسة سيجد التلاميذ أنفسهم في مواجهة اكتظاظ الدروس المتأخرة وعدم قدرتهم على استيعاب سيول المعلومات المنهمرة والملقاة عليهم بعجالة تسابق ما بقي من زمن يفصلهم عن امتحانات نهاية السنة من شدة قصره سيجعلهم يدخلون حتماً في زوبعة ارتباك لا يجدون منها مخرجاً.


وبالعودة إلى أسباب الأزمة، فإن المنصف العاقل يجد أن تعنت وزيرة التربية لا مبرر له؛ إذ كان بوسعها أن تلجأ إلى التعامل بحكمة مع رفض أساتذة نقابة الكنابست -فرع ولاية البليدة- بقاء مديرة التربية وإصرارهم على رحيلها؛ فتقوم بتحويلها إلى مهام أخرى أو ترقيتها لمنصب مركزي في وزارتها لتستخلفها بمدير جديد. وهكذا، فإن تلاميذ ولاية البليدة لا يجدون كبير عناء في استدراك دروسهم، ويلتحق ساعتها الأساتذة المضربين بقاعات التدريس برحابة صدر وتقبُّل كبير لكلفة انقطاعهم عن التدريس بتعويض ساعات العمل التي تخلفوا عنها.
لكن بن غبريط أصرت على موقفها وبعنجهية بيزنطية أبقت على مديرة البليدة وأقفلت أبواب الحوار وكل سبيل مؤدية إليه.
وفي تلك الأثناء كان ثلج الشتاء الذي تساقط على مرتفعات جبال الشريعة السامقة يتدحرج ويزداد سماكة مع برودة الوزيرة ودخول كنابست ولاية بجاية فيما بعد في إضراب مفتوح بسبب سوء التسيير الذي انعكس سلباً على حياة الأساتذة والمعلمين جراء عدم تلقيهم أجورهم لمدة فاقت لدى البعض منهم مدة العامين.
وفي وسط الأزمة لم يجد المجلس الوطني لنقابة الكنابست من وسيلة غير إعلان تضامن جميع فروع النقابة وطنيا مع زملائهم، وهذا أمر طبيعي كان لا بد من أن لا يخفى على الوزيرة مواجهته، وليس من المستبعد أن ينظم إليهم أساتذة ومعلمون من خارج النقابة، وباحتدام الموقف وتأزم الوضع، في وسط لهيب الاضطرابات الاجتماعية وحملات الإضرابات التي تشنها العديد من النقابات على الحكومة، التي فشلت في تسيير الأزمة الأساسية بإيجاد موارد مالية تتيح لها التصدي لموجات المطالب المتتالية.

تتقدم كرة الثلج نحو قصر الدكتور سعدان "مقر الحكومة" بثبات. وبعدما أعلنت نقابات أخرى نيتها الدخول في إضراب، تزداد الأمور تعقيدا. خصوصا مع إصرار الوزير الأول أحمد أويحيى على أن يظل صامتا ولا تقدم حكومته أي تنازل على الرغم من تيسر الحل. وحتى وهو يتكلم عن الموضوع لأول مرة بقناع الأمين العام لحزبه التجمع الوطني الديمقراطي في خطاب له بمدينة بسكرة نهاية الأسبوع، موجها كلمات عدائية تصب الزيت في النار وتزيد الموقف حدة متهما النقابيين بأنهم فوضويون وقراصنة؛ لاحقته تصفيرات جانب من الحضور وسط ارتفاع صخبهم وصياحهم في وجهه.

ويبدو أن الأمور أخذت شكلاً تصعيدياً خطيراً بانضمام ثلاث نقابات أخرى للكنابست، الأمر الذي من شأنه أن يزيد من متاعب الوزيرة رغم حرصها على إظهار برودة أعصابها وإخفاء تأثرها بما يحدث حولها، وينذر بتفجر الجبهة الاجتماعية خاصة مع دخول قطاعات أخرى على غرار الصحة والبريد والمواصلات دائرة الإضرابات ورفعها لمطالب تتعلق عموماً بالحالة الاجتماعية الصعبة جراء انخفاض القدرة الشرائية عقب تهاوي قيمة العملة الوطنية وارتفاع الأسعار؛ الأمر الذي سيضع الحكومة بأكملها أمام احتقان عمالي ليس من المستبعد أن يرتفع معه سقف المطالب ويخرج عن حيزه الاجتماعي والمهني، فنشهد حراكاً ذا طابع سياسي لتجد الحكومة نفسها أمام ملفات الإخفاق في إدارة الشأن العام والفشل في تسيير الموارد بما يحقق الرفاه الاجتماعي الذي يبدو أن المجتمع الجزائري بات يبتعد عنه مع مرور الوقت ويتحسر على ضياع فرص الإقلاع الاقتصادي التي فوتتها حكومات "البحبوحة المالية" أكثر مرة.

ومن الممكن أن الحكومة بتعاطيها مع احتجاجات الجبهة الاجتماعية تسعى إلى كسب المزيد من الأوراق الرابحة لتخرجها في وقتها مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية في النصف الأول من السنة القادمة، ففي ظل صمت النظام السياسي وعدم إعلانه عمن سيقود الخمس سنوات المقبلة..

هل سيتم التمديد لبوتفليقة أم يلجأ النظام إلى إقحام مرشح جديد. في الحالين يحتاج النظام إلى دعم الجبهة الاجتماعية التي إلى جانب أنها تمثل وعاءً انتخابياً هاماً سيكون من عدم الحكمة التفريط فيه أو على أقل تقدير العمل على مهادنته وموادعته وعدم استعدائه؛ فمن لم تتمكن من الظفر بوده في ظروف الانتخابات لا يصح معاداته. وإذا صح هذا الاحتمال، فإن صمت الحكومة يشير إلى أن النظام يريد حشد المزيد من الفئات المحتقنة حتى يعمل على ترضيتها بالاستجابة إلى كل مطالبها أو التوصل إلى التنازل لها عن جزء منها بأقل التكاليف الممكنة. أنها بذلك هواية النظام المفضلة في افتعال الحرائق الاجتماعية حتى إذا ما عجز الجميع عن إخمادها، انبرى لها بزي رجل الإطفاء الأوحد، فيصبح من المتيسر عليه شراء السلم الاجتماعي، وضمان البقاء والاستمرارية.
8A3EF09B-0AAE-4B61-92EA-2DBD2738F8E1
فريد بغداد

ليسانس علوم سياسية وعلاقات دولية، مهتم بالشأن السياسي والأمني المحلي والعربي.