الجزائر: نقاش بشأن دوافع موقف قايد صالح من "الدم" وتجنب الصدام

24 ديسمبر 2019
قايد صالح كان المتحكم بمسار الأمور منذ استقالة بوتفليقة(Getty)
+ الخط -
أعاد رحيل قائد أركان الجيش الجزائري، الفريق أحمد قايد صالح، النقاش حول طبيعة المواقف التي اتخذها خلال الأزمة السياسية الأخيرة منذ بداية الحراك الشعبي شهر فبراير/شباط الماضي، وصوابية تلك المواقف، من ناحية تمسكه "بالخيار الدستوري"، ورفضه السماح بإطلاق مسار ديمقراطي توافقي من جهة، ومنعه إراقة الدماء خلال عشرة أشهر من المظاهرات من ناحية أخرى، وتلافي أي انزلاق للوضع.


في السابع من مارس/آذار الماضي، جرى تسريب تعليمات وجهها قايد صالح إلى قوات الأمن والشرطة، التي ليست تحت سلطته، باعتبارها تتبع وزارة الداخلية، تتضمن قراراً مشدداً بمنع استعمال الرصاص بشكل تام، أو الدخول في مواجهة مع المتظاهرين في الحراك الشعبي، والذي كان يتوجه حينها إلى جمعته الثالثة. وأعلن قايد صالح لاحقاً عن مرافقة الجيش والتزامه تأمين المظاهرات، تزامناً مع تمسك الحراك بالسلمية وعدم اللجوء الى العنف، وتأسس هذا الموقف على التزام شخصي من قبل قايد صالح ظل يردده خلال مجموع خطابته التي ألقاها في فترة الأزمة حتى الأسبوع الأخير قبل رحيله.

ومثّل هذا الموقف تحولاً لافتاً في سلوك الجيش والمؤسسة الأمنية مع المظاهرات والاحتجاجات الشعبية، بالمقارنة مع محطات سابقة في التاريخ السياسي للجزائر، شهد فيها الشارع مواجهة دامية بين الجيش والشعب، إذ لم يتوان الجيش عن استعمال النار لقمع مظاهرات الربيع الأمازيغي في إبريل/نيسان 1980، وأحداث قسنطينة عام 1986، وفي انتفاضة أكتوبر 1988، حين قتل وأصيب عدد من المتظاهرين، ثم في اعتصام الإسلاميين في ساحة الشهداء وسط العاصمة في يونيو/حزيران 1990، وفي الأزمة الأمنية، وصولاً إلى أحداث الربيع الأمازيغي بين إبريل/نيسان ويونيو/حزيران 2001.
وبرغم أن الكثيرين يعتقدون أن التزام الجيش عدم إطلاق الرصاص على مظاهرات الحراك الشعبي هو الأمر الطبيعي، وأنه تصحيح لأخطاء وتجاوزات ارتكبتها القيادات السابقة للجيش قبل الفريق قايد صالح، فإن ناشطين سياسيين يعتقدون، في المقابل، أن ذلك معطى مهم يحسب لقائد الجيش الراحل. ويعتبر الناشط السياسي محمد حديبي، في تصريح لـ"العربي الجديد"، أن "مسيرة الحراك الشعبي خلال 44 جمعة والتعاطي الإيجابي معها من قبل المؤسسة العسكرية، سواء بحمايتها من أي انزلاق أو اختراق أو بضمان عدم سفك دماء الجزائريين أو من خلال تعهد قايد صالح بضمان محاسبة رؤوس الفساد والقبض عليهم، كل ذلك يدخل في نطاق تغيير جذري لعقيدة المؤسسة، وتحولها من مؤسسة تتحكم فيها ولاءات شخصية، إلى مؤسسة عسكرية خادمة لوطنها وحامية لدستور البلاد"، مضيفاً أن ذلك "جعل العالم كله يُفاجأ بالدور البارز للمؤسسة العسكرية في ضمان أمن واستقرار البلاد من دون اللجوء إلى استعمال العنف، بالرغم من العنف الدي مورس عليها من قبل بعض أصوات النخب المتطرفة، وساعد في التفاف الجزائريين من جديد حول المؤسسة، وهو عكس ما جرى سابقا طيلة زمن العصابة التي حكمت بمنطق الرعب والتخويف"، ويشير حديبي إلى أن هذه التحولات في الجزائر تخالف ما يجري مع جيوش أنظمة عربية أخرى.


لكن ناشطين معارضين لخيارات الجيش يقدمون قراءة مختلفة في هذا السياق، ويعتبرون أن هناك معطيات مهمة فرضت على الجيش التصرف بهذه الطريقة الهادئة مع الاحتجاجات، إذ إن الحراك هو الذي لم يمنح مبررا لاستعمال العنف من قبل الجيش والأجهزة الأمنية والشرطية، إضافة إلى أن الجيش لم يكن يرغب في تكرار تجربة التسعينيات الأليمة، وقدّر أن كلفة تلك التجربة كانت كبيرة على كل المستويات والفاعلين.

ويعتقد الناشط الحقوقي عبد الغني بادي، في تصريح لـ"العربي الجديد"، أن "المرحلة اقتضت عدم التدخل العنفي بتقدير تورط المؤسسة في أحداث تسعينيات القرن الماضي الدامية، وما كلفها ذلك من فاتورة، لذا لم يكن من مصلحتها أن تتدخل بأي طريقة غير سلمية". ويرى بادي أن "الحرص على حقن الدماء هو موقف حكيم في مسار قايد صالح الأمني، غير أن المسار السياسي الذي رسمه لم يكن منتجاً لحل حقيقي".

وبالعودة إلى جملة من خطابات قائد الأركان السابق، فإن تجنب حمام الدم في الجزائر لم يكن فقط بسبب الضمير الأخلاقي والواجب السياسي في حماية الشعب ورفض توجيه البندقية إليه، لكنه كان ينطوي على تقدير سياسي يتعلق بتجنب إحداث أي انقسام في الداخل، أو مضاعفة التوترات التي قد تدفع إلى انهيار كامل للوضع في البلاد، وأكثر من ذلك، منع وتجنب توفير أية مبررات للتدخل الأجنبي في الشأن الداخلي للجزائر، خاصة أن ملف حقوق الإنسان والحريات ظل محل رصد مستمر من قبل عدد من الدول كفرنسا، ومنظمات مدنية دولية.
وإذا كان موقف الجيش وتوجه قائد الأركان الراحل نحو التزام أقصى حالات ضبط النفس وبشكل مستمر مع المظاهرات، بما فيها تلك التي اتخذت منه في بعض الأحيان عنوانا مركزيا لمهاجمته، فإن محللين يعتبرون أن ذلك يخبر بأمرين: الأول يتعلق بتصحيح العلاقة كاملة بين المؤسسة العسكرية والشعب، بعد فترة من الشك والتصادم، خاصة نتيجة التداعيات المؤلمة للأزمة الأمنية التي تورط فيها الجيش وقيادته السابقة في التسعينيات من جهة، ومن جهة أخرى وضع الجيش في سياق حمائي ومرافق للشعب، وليس في صدام معه، كعقيدة جديدة تقطع مع كل المواقف والممارسات السابقة للجيش في التعامل مع الشارع والحالة الاحتجاجية والمطلبية.

ويعلق الباحث ومدير كلية العلوم السياسية بجامعة ورقلة، جنوبي الجزائر، البروفيسور قوي بوحانية على ذلك قائلاً إن "عقيدة الجيش الجزائري مرسومة دستورياً وفي القوانين المنظمة لعمل الجيش، لكن التطور البارز والبصمة الشخصية لقائد الأركان الراحل تتعلق بغرس مبدأ مهم هو الاحترافية والتعامل بآلية ضبط النفس، على أن كل انزلاقات خطيرة تحتم بالضرورة التعامل برؤية وآلية جديدة وهي العدالة". ​
المساهمون