ومثّل عام 2019 منعرجاً تاريخياً في الجزائر، حيث كانت البلاد تتوجه إلى انتخابات رئاسية في شهر إبريل/ نيسان، وإلى ولاية رئاسية خامسة لبوتفليقة، الذي ظل غائباً عن المشهد قبل ذلك بأشهر، لكن السلطة لم تنتبه إلى أنّ جملة من المؤشرات والقضايا المتلاحقة، التي أثارت الرأي العام منذ منتصف عام 2018، كانت كلها تدفع باتجاه ثوران الشارع، وتعقّد من مهمة السلطة في تمرير مشروع الولاية الرئاسية الخامسة.
ومنذ انكشاف قضية تهريب كوكايين، في نهاية شهر مايو/أيار 2018، وبروز علاقات متشابكة بين "بارون" المخدرات المعروف باسم كمال البوشي، ورجالات الدولة والحكومة والأمن، بدأ التململ في الشارع وتصاعد الحديث عن تحالف بين المال القذر ومؤسسات في الدولة واستغلال النفوذ، لكن أكثر ما فجرته هذه القضية هو الصراع الذي خرج إلى العلن بين رموز النظام، وأبرزها التصريحات المتشنجة بين قائد الأمن العام الفريق عبد الغني هامل، وقائد الجيش، الذي رحل لاحقاً، الفريق أحمد قايد صالح، رد فيها هامل بقوله إن "من يريد محاربة الفساد عليه أن يكون نظيفاً"، وقد أقيل من منصبه بعد تصريحه هذا رداً على تصريح لقائد الجيش، قال فيه إن قضية الكوكايين "تتطلب حرباً على الفساد".
ولم تكن سنة 2019 قد حلّت، حتى كان الفريق المحيط ببوتفليقة يسابق الزمن لترتيب إعلان ترشحه لولاية رئاسية خامسة، وأعلن ذلك فعليا في الثالث من فبراير/ شباط، لتبدأ بعد ذلك حملة التعبئة لصالحه.
وفي التاسع من فبراير/شباط، عقدت مجموعة من الأحزاب والقوى السياسية الموالية لبوتفليقة تجمعاً شعبياً في العاصمة الجزائرية، بقيادة حزب "جبهة التحرير الوطني"، أعلنت خلاله دعم ترشح بوتفليقة، الذي سيغادر نهاية الشهر نفسه إلى سويسرا للعلاج.
اعتُبر ترشح بوتفليقة استفزازاً للرأي العام، في تلك الفترة كان الغليان في الشارع قد وصل إلى أشده، وتحفزت مكونات شعبية لإسقاط الولاية الرئاسية الخامسة، لكن السلطة أساءت قراءة أولى المؤشرات على ذلك، خلال ثلاث حركات شعبية عفوية مناوئة للولاية الخامسة ولترشح بوتفليقة. حدث ذلك في منطقة خنشلة شرقي الجزائر ضد تعليق صورة كبيرة لبوتفليقة على مدخل البلدية، وفي مسيرة ضخمة في 19 فبراير/شباط في مدينة خراطة شرقي الجزائر، وفي مسيرة ليلية داخل الحي الجامعي بباب الزوار وسط العاصمة. لكن السلطة اعتقدت أنّ هذه التحركات الشعبية هي نفسها التحركات المحدودة التي رافقت ترشح بوتفليقة لولاية رئاسية رابعة عام 2014، والتي لم تحظ بتفاعل شعبي حينها بقيادة حركة "بركات" (كفاية الجزائرية).
في 22 فبراير/ شباط، وقبل أقل من عشرة أيام على إيداع ملفات الترشح لدى المجلس الدستوري، فوجئت السلطة بتفجر الشارع بشكل غير مسبوق في تاريخ الجزائر، إذ لم يحدث أن غصت شوارع العاصمة الجزائرية وكامل المدن بتظاهرات صاخبة ضد بوتفليقة، مطالبة برحيله من السلطة، وتمدد الحراك أفقياً وعمودياً، إذ بدأت قوى سياسية ومدنية تلتحق تباعاً بالحراك الشعبي، وأقرت شخصيات كانت موالية لبوتفليقة بضرورة رحيله.
لكن الفريق الرئاسي المحيط ببوتفليقة،وشقيقه السعيد، أصروا على استكمال محاولة الترشح، وأودع ملف ترشح بوتفليقة في الثالث من مارس/آذار، وطلب من المتظاهرين ولاية تدوم سنة فقط ينهيها بعقد ندوة حوار وطني لتسليم السلطة. غير أنّ الشارع الذي كان قد نظّم، في أول من مارس/آذار، جمعته الثانية من الحراك، وكان يتوجه إلى الجمعة الثالثة، رفض ذلك، وجاءت تظاهرات الثامن من الشهر ذاته، لتقطع الشك باليقين بالنسبة للسلطة، ولبوتفليقة الذي أعلن في 11 منه إلغاء انتخابات 18 إبريل/نيسان.
تحول هام في عقيدة الجيش
كان موقف الجيش، الذي التزم بمنع إطلاق الرصاص على المتظاهرين مهما كانت الظروف، مشجعاً وتاريخياً مقارنة مع محطات سابقة كان فيها موقف الجيش مغايراً تماماً لذلك، ومثل هذا الأمر يعد تحوّلاً هاماً في عقيدة المؤسسة العسكرية، تزامناً مع انضمام قطاعات مهنية ووظيفية هامة إلى الحراك الشعبي، إذ تحركت النقابات المهنية، خصوصاً في قطاعي التربية والصحة، وكذلك الجامعات، وصار للطلبة حراك أسبوعي كل يوم ثلاثاء دعماً لمطالب الحراك الشعبي، وتحولت الجامعة بعد سنوات من الفتور إلى ساحة ثقل جديدة في المشهد، وعزز المحامون الحراك بانضمامهم إلى صفوفه مبكراً، لكن أكبر دعم للحراك جاء من القضاة الذين أعلنوا التمرد على السلطة، وانخرطوا في الحراك مع تبنّيهم لكل مطالب التغيير السياسي.
وكان من اللافت أنّ الشارع والحراك الشعبي لم يكتف بإلغاء الانتخابات الرئاسية ومنع بوتفليقة من الترشح، إذ تمددت المطالب إلى رفض مقترح ندوة سياسية أوكل بوتفليقة مهمة تنظيمها والحوار بشأنها لوزير الخارجية الأسبق أحمد طالب الإبراهيمي، كما المطالب بإقالة حكومة أحمد أويحيى واستبعاد كل رموز النظام، ومحاسبة الفاسدين ورجال الكارتل المالي، وهو ما تحقق بعد إقالة حكومة أويحيى وبدء اعتقال عدد من رموز الفساد، أولهم زعيم الكارتل المالي علي حداد، الذي أوقف عند فراره إلى الجارة تونس، في مارس/ آذار.
كما طالب الشعب الجيش باتخاذ الموقف الصحيح لدعم المطالب الشعبية، وشكّل تحول موقف الأخير لاحقاً لصالح الشعب منعطفاً في مسار الأحداث، إذ أعلن قائد الجيش الراحل أحمد قايد صالح، في 30 مارس/ آذار، تطبيق المادة 102 من الدستور، والتي تعني استقالة بوتفليقة وشغور منصب الرئيس، وهو ما حدث في الثاني من إبريل/ نيسان، تزامناً مع إعلان تشكيل حكومة جديدة وتولي رئيس مجلس الأمة عبد القادر بن صالح مهامه رئيساً للدولة.
لكن استقالة بوتفليقة الذي خرج من أضيق الأبواب، وإن مثلت إعلان نهاية حقبة سياسية دامت 20 سنة، لم تكن كافية، فالمطالب السياسية للحراك الشعبي كانت تتصاعد وبلغت سقفاً أعلى، من خلال المطالبة بتغيير النظام كلياً والدخول في مرحلة انتقالية وانتخاب مجلس تأسيسي.
إلا أنّ الجيش الذي دعم مطلب تنحية بوتفليقة، أبدى تخوفه من المرحلة الانتقالية ورفض فكرة الذهاب إلى مجلس تأسيسي، وقرر التمسك بالخيار الدستوري المؤدي إلى تنظيم انتخابات رئاسية في حدود الرابع من يوليو/ تموز، بيد أنّ الرفض الشعبي لها وانسحاب عدد من المرشحين أدى إلى إلغائها أيضاً.
تباعد العلاقة بين الجيش والحراك
في هذه الفترة، كانت المسافة بين مواقف الجيش والحراك تتباعد؛ بسبب بعض مواقف قايد صالح بشأن منع رفع الراية الأمازيغية في المظاهرات، وإغلاق العاصمة أيام الجمعة، وبدء اعتقال الناشطين.
وكان القضاء، بدعم مركزي من الجيش، يخوض حملة اعتقالات في صفوف كبار رجالات الدولة والجيش، إذ تم اعتقال رئيسي الحكومة السابقين أحمد أويحيى، وعبد المالك سلال، و18 وزيراً وكبار رجال المال والأعمال من المقربين لمحيط الرئيس بوتفليقة، بتهم فساد مالي وسياسي (تمت إدانة بعضهم بالسجن وتستمر محاكمة الباقين حتى الآن).
ومثل اعتقال رؤساء الحكومة والوزراء ومحاكمتهم بشكل علني، تحولاً لافتاً في أداء القضاء، إذ، للمرة الأولى في تاريخ الجزائر، يمثل رؤساء حكومات وهذا العدد الكبير من الوزراء أمام القضاء ويودعون في السجن.
وقبل ذلك، في التاسع من يونيو/ حزيران، شاهد الجزائريون صوراً لم تكن لترد على خاطر أي كان، القائد السابق للمخابرات والرجل المرعب محمد مدين، وصانع القرارات السياسية الذي كان يختطف ختم الرئاسة، السعيد بوتفليقة شقيق بوتفليقة، وقائد جهاز المخابرات وقتها عثمان بشير طرطاق، يتم اقتيادهم إلى المحكمة العسكرية في البليدة قرب العاصمة الجزائرية، بتهمة التآمر لإعلان حالة الطوارئ وإنزال الجيش إلى الشارع، وإقالة قيادات عسكرية وسياسية، بينها أمينة عام حزب "العمال" اليساري لويزة حنون، حيث تم الحكم عليهم بعقوبة بالسجن 15 عاماً.
ومع توالي إخفاق السلطة في تنظيم الانتخابات الرئاسية بعد 18 إبريل/ نيسان، وتمدد التظاهرات الشعبية والحراك، أطلقت السلطة الجديدة، وتحديداً رئيس الدولة عبد القادر بن صالح، وبدعم من الجيش، في 9 يونيو/ حزيران، مبادرة للحوار السياسي، لكن الكتلة الغالبة من القوى السياسية والمدنية تمسكت بالرفض، بينما أصرت السلطة والجيش على أن يكون الحوار عبر آلية هيئة مستقلة يقودها رئيس البرلمان السابق كريم يونس، إطارا وحيدا للتوصل إلى مخرجين أساسيين؛ هما: تعديل قانون الانتخابات وصياغة قانون يتيح استحداث هيئة عليا للانتخابات، تم إنشاؤها للمرة الأولى في تاريخ الجزائر، برئاسة وزير العدل السابق محمد شرفي.
وعلى الرغم من حالة الرفض الشعبي والسياسي التي واجهت الهيئة، فإنّ الأخيرة أنجزت الحوار "بمن حضر"، وأطلقت استعدادات مبكرة للانتخابات الرئاسية التي جرت في 12 ديسمبر/ كانون الأول الحالي، والتي اعترض عليها قطاع واسع من الجزائريين، ولم تتجاوز نسبة التصويت فيها 40%، انتهت بانتخاب عبد المجيد تبون رئيساً للجمهورية.
ولم تنته سنة 2019، من دون أن تشهد أيضاً أول مواجهة مباشرة بين القضاة والسلطة، حيث أعلن القضاة، في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، إضراباً عاماً شل كل المحاكم والمؤسسات العدلية، ضد قرارات وزير العدل والحكومة، وطرح للمرة الأولى بشكل حاد ملف استقلالية العدالة تماماً عن السلطة السياسية.
لكن وبقدر ما كانت سنة 2019 سنة ثورية سعيدة أطاحت حكم بوتفليقة، فإنها انتهت بخبر وفاة قائد الجيش أحمد قايد صالح، المفاجئة ، والذي قدّر له الجزائريون، بمن فيهم من يعترضون على سياساته إزاء حل الأزمة، حقنه للدم ورفضه إطلاق النار على المتظاهرين وتأمين تظاهرات الحراك الشعبي.
منذ التسعينات وبسبب الأزمة الأمنية العنيفة التي شهدتها البلاد، كان الجزائريون قد تركوا الشارع وابتعدوا عن الاحتجاج الشعبي، وهذا الأمر جعل من 2019 سنة استثنائية في التاريخ السياسي للجزائر، كونها شهدت أبرز حدث يتعلق بعودة الجزائري إلى الشارع كفضاء سياسي وساحة للاحتجاج والتعبير عن المطالب والمواقف، في انتظار ما ستحمله سنة 2020 للسلطة لتحقيق مطالبه وتطلعاته.