الجزائر - فلسطين: من سيدي بومدين إلى محمد بودية

15 مايو 2020
مواجهة فلسطينية مع قوات الاحتلال قرب غزة، 2015 (Getty)
+ الخط -

في عام 1187 ميلادية، شاركَ الفقيه والمتصوّف والشاعر أبو مدين شعيب الغوث (إشبيلية 1115 - تلمسان 1198) في معركة حطّين التي قادها صلاح الدين الأيوبي لتحرير القدس من الصليبيّين. وتذكُر عدّة مصادر تاريخية، من بينها كتابُ "وقف سيدي أبو مدين في القدس الشريف" للباحثَين الجزائري زعيم خنشلاوي والفلسطيني محمد الحزماوي (2007) أنَّ "معلّم المعلّمين"، وهو اللقبٌ الذي أطلقه محيي الدين ابن عربي على أبي مدين، ترك في المدينة - بالإضافة إلى العقارات التي أوقفها على الفقراء والمحتاجين من أبناء الجالية المغاربية - ذراعَه الذي أُصيب في المعركة ودفَنه في تراب المدينة.

كان أبو مدين الغوث واحداً من مغاربيّين كُثر شاركوا في جيش صلاح الدين الأيوبي ومن قبله نور الدين زنكي، وأشهرُهُم على الإطلاق عبدُ العزيز بن شدّاد بن تميم بن المعز بن باديس الذي ينتمي إلى عائلة رائد الحركة الإصلاحية في الجزائر عبد الحميد بن باديس (1898 - 1940)؛ إذ يذكُر الباحث عبد الغني بلقيروس في كتابه "صفحات من جهاد الجزائريّين بفلسطين" (2010)، أنه كان أحد قادة صلاح الدين العسكريّين الذين برزوا في الحروب ضدّ الصليبيّين في فلسطين وبلاد الشام عموماً.

غير أنَّ تلك العلاقات بين فلسطين وبلاد المغرب العربي لم تبدأ مع الحروب الصليبية، بل تعود إلى تاريخٍ أقدم، وتحديداً إلى دخول الإسلام منطقة شمال أفريقية. ويُورد الباحث والأكاديمي أحمد شنتي، في دراسةٍ له بعنوان "الجزائر والقضية الفلسطينية... صفحاتٌ من الجهاد المشترك"، أنَّ سكّان المنطقة كانوا يزورون فلسطين بعد انتهائهم من الحجّ في مكّة، بهدف التعبُّد في المسجد الأقصى الذي يعتقد المسلمون أنّ الصلاة فيه تُعادل خمسمائة صلاة في غيره، مضيفاً أنَّ أعداد المهاجرين المغاربيّين إلى فلسطين شهدت ارتفاعاً خلال العهد الفاطمي؛ إذ كانوا يُشكّلون غالبية عناصر الجيش الذي قدم إلى الشام، وقد استقرّ كثيرٌ منهم في المكان الذي عُرف لاحقاً بـ "حارة المغاربة" في القدس القديمة وهو الحيّ الذي هدمته قوات الاحتلال بعد أيام قليلة من احتلال الشطر الشرقي من القدس في يونيو/حزيران 1967.

في دراسته تلك، يُقدّم شنتي تفسيراً تاريخياً للعلاقة العاطفية التي تربط الجزائريّين بالقضية الفلسطينية؛ فإضافةً إلى تجرّعهم من كأس الاستعمار الاستيطاني منذ ثلاثينيات القرن التاسع عشر، يوضّح الباحث أسباباً تاريخية، منها إصدار سلطات الاحتلال الفرنسية "مرسوم كريميو" الذي أدمج يهودَ الجزائر، وكانوا وقتها في حدود 35 ألف نسمةٍ، ضمن المجتمع الكولونيالي، وهو ما فتح الباب على مواجهاتٍ عنيفة بين الطرفَين كانت تتجدّد طيلة سنوات.

يورد بن شنتي عدّة مواقف لشخصياتٍ جزائرية محذّرة من تحرّكات الصهاينة لإقامة دولةٍ لهم على أرض فلسطين، ومندّدة بوعد بلفور لاحقاً. ويوضّح - استناداً إلى عدّة كُتب ومصادر تاريخية - أنّ مواقف الجزائريّين من القضية الفلسطينية باتت أكثر وضوحاً مع بداية الثلاثينيات؛ ذاكراً على سبيل المثال اتصال زعيم الحركة الوطنية الجزائرية مصالي الحاج (1898 - 1974) بقادة العمل الفلسطيني والتقاءه بكلّ من الشيخ أمين الحُسيني وأحمد حلمي باشا عام 1931، وتأكيده لهما دعم الجزائريين لإخوتهم الفلسطينيّين، وأيضاً مشاركة جزائريّين في "المؤتمر الإسلامي العام" بمدينة القدس في السنة الموالية، ومن بينهم الشيخ أبو إسحق أطفيش، والأمير سعيد الجزائري، ثمّ انعقاد "المؤتمر الإسلامي الجزائري"؛ وهو المؤتمر الذي يذكر المؤرّخ الجزائري الراحل أبو القاسم سعد اللهن في كتابه "الحركة الوطنية الجزائرية" (1992)، أنّ "جمعية العلماء المسلمين" انبثقت عنه.

سيستمرُّ هذا الدعم ليتّخذ أشكالاً معنوية ومادية عدّة مع قيام الثورة الفلسطينية الكبرى (1936 - 1939)؛ حيث نظّمت "جمعية العلماء المسلمين" وحزب الشعب، بحسب المصدر ذاته، حملات تعبئة ومساندة وجمع تبرّعات، ومن ذلك مهرجان شعبي كبير أشرف عليه مصالي الحاج في الجزائر العاصمة، ودعا فيه إلى وقف المجازر ضدّ الفلسطينيّين، كما انبثق عنه تأسيس "الهيئة الجزائرية لمساعدة فلسطين العربية". وأرسل الحزب تبرّعات للفلسطينيّين بقيمة 5446 فرنكا فرنسيا، حجز الاحتلال الفرنسي جزءاً منها.

وسيستمرُّ هذا الدعم أيضاً مع اندلاع حرب 1948؛ حيث جرى تشكيل "الهيئة العليا لإغاثة فلسطين" التي ترأّسها البشر الإبراهيمي، وضمّت في عضويتها كلّاً من الطيّب العقبي وإبراهيم بيوض وفرحات عباس. وبحسب كتاب "صفحات من جهاد الجزائريّين بفلسطين" لعبد الغني بلقيروس، فقد بلغ عدد الجزائريين الذين شاركوا في حرب 1948، من دون احتساب المقيمين في بلاد الشام، قرابة 260 جزائرياً.

بعد قرابة ستّ سنوات من ذلك، ستندلع الثورة التحريرية الجزائرية (1954 - 1962)، التي يذكر شنتي أنّ الفلسطينيّين كانوا من أكثر العرب احتفاءً بها ودعماً لها رغم النكبة؛ "سواء بالتبرّع والاكتتاب أو تنظيم المهرجانات والمظاهرات".

بعد استقلال الجزائر عام 1962، سيتواصل الدعم الشعبي والرسمي للقضية الفلسطينية؛ حيث كانت الجزائر من أوائل الدول التي اعترفت بمنظّمة التحرير الفلسطينية، وفي عهد الرئيس الجزائري الراحل محمد بوخروبة المعروف باسم هوّاري بومدين (1932 - 1978) الذي عُرف بمقولته الشهيرة: "نحن مع فلسطين ظالمة أو مظلومة"، جرت عملية تبادل للأسرى بين فصائل الثورة وسلطات الاحتلال عام 1968. وفي الخامس عشر من تشرين الثاني/نوفمبر 1988، سيُعلن المجلس الوطني الفلسطيني استقلال دولة فلسطين خلال دورته التاسعة عشرة التي انعقدت في الجزائر التي ظلّت إلى اليوم ترفض كلّ أشكال التطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي.

لعلَ هذه الإطلالة السريعة ستكون منقوصةً من دون ذكر المسرحي والصحفي الجزائري محمد بودية (1932 - 1973) الذي شارك في الثورة التحريرية وترأس المسرح الوطني الجزائري، قبل أن ينخرط في صفوف "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين"، ويغتاله الموساد الإسرائيلي في باريس.

المساهمون