تتصاعد التوترات الاجتماعية في الجزائر بشكل غير مسبوق، بالتزامن مع عودة الحديث عن مطلب إنشاء مجلس تأسيسي يعيد صياغة دستور توافقي، كمقدمة لمرحلة انتقالية للخروج من المأزق السياسي والاجتماعي في البلاد. وفيما تعمل السلطة على صد هكذا مطلب سياسي، تصدر تحذيرات من انزلاق الأوضاع وحدوث صدام ينسف حالة الاستقرار التي عاشتها البلاد في أعقاب الأزمة الأمنية الدامية.
ودفعت الإضرابات التي تعم الجزائر، والتطورات المتسمة بغموض المستقبل السياسي في البلاد، ومرض الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، ومؤشرات التوجه نحو ولاية رئاسية خامسة برغم وعكته الصحية، إلى تجدد مطالب سياسية بإقرار مرحلة انتقالية في البلاد، وتشكيل هيئة تأسيسية في شكل "مجلس تأسيسي"، يعيد صياغة دستور توافقي، وتنظيم انتخابات بإشراف هيئة مستقلة، والاستئناس بالتجربة التونسية في هذا السياق. وأطلقت الأمينة العامة لحزب العمال اليساري، لويزة حنون، الأسبوع الماضي، مبادرة سياسية تتعلق بالدعوة إلى لائحة وطنية لتشكيل مجلس تأسيسي ينقذ البلاد من مأزق الشرعية السياسية. وكشفت، في مؤتمر سياسي لحزبها، عن مبادرة سياسية تقضي "بجمع مليون ونصف المليون توقيع من المواطنين لمطالبة الرئيس عبد العزيز بوتفليقة بالتدخل بشكل عاجل لإنقاذ البلد من الفوضى، عبر استدعاء الجزائريين لانتخاب مجلس وطني تأسيسي يتم بموجبه تجديد سياسي ومؤسساتي من أجل إنقاذ الدولة".
وفي السياق السياسي ذاته، يؤكد رئيس حزب "جيل جديد"، جيلالي سفيان، في تصريح صحافي، أن التوجه البطيء والمؤكد للبلاد نحو الاضطرابات وعدم الاستقرار وبلوغ السخط الشعبي ذروته، واتخاذ الأوضاع أبعاداً استثنائية، تفرض التوجه نحو "مرحلة انتقالية تكون محددة في مدة قصيرة قدر الإمكان، وببرنامج توافقي حول مرشح واحد في الانتخابات الرئاسية المقررة في ربيع 2019، على أن يضم البرنامج الانتقالي إصلاحات جوهرية ومسارا تأسيسيا يؤدي إلى دستور يضمن استقلالية القضاء، وتنصيب هيئة مستقلة لتنظيم الانتخابات". وأشار إلى أن "هناك تناقضاً رهيباً بين حالة التذمر الشامل الذي تعيشه الجزائر، وبين حاشية النظام المهووسة بالبقاء في السلطة، والتي تناور منذ الآن على رهان إجراء انتخابات رئاسية، تريدها تحت السيطرة". واعتبر أن "الفوضى التي سببتها العهدة الرابعة واضحة على كل المستويات، ولم يبق للبلد سوى بعض الحلول الممكنة لإيجاد مخرج ملائم. هناك تراجيديا سياسية، لأن كل يوم يمر يكشف لنا عن عدم الكفاءة، وغياب النزاهة، وعنف السلطة التي همّشت كل المؤسسات، وانتقلت الآن إلى قمع شامل للمواطنين".
ولا تفوت قوى المعارضة السياسية الفرصة لتحميل الحكومة المسؤولية عن تردي الأوضاع وحالة التصادم الراهنة بين الفعاليات الاجتماعية والحكومة، بسبب سوء تدبير وتسيير، والإخفاقات المتواصلة على الصعيد السياسي والاجتماعي والاقتصادي، وانهيار عامل الثقة بين الطبقة العمالية والمؤسسة الرسمية. لكن الحكومة الجزائرية، التي يصفها الكثير من المراقبين بـ"اليد المرتعشة"، ما زالت تتعاطى مع التطورات والغموض السياسي والتوترات الاجتماعية بكثير من الارتباك. فإضافة إلى تعاطيها ببرودة مع مطلب إنشاء مجلس تأسيسي، واعتبار أن البلد يملك في الوقت الحالي المؤسسات والنصوص الديمقراطية، فإنها تلصق بقوى المعارضة، التي تطلق هكذا مبادرات سياسية، تهمة محاولة استغلال الأوضاع، تزامناً مع حالة التشكيك في خلفيات الحراك الاجتماعي ومحاولة الحكومة وأحزاب الموالاة ربطه "بأطراف أو أياد أجنبية ومؤامرات" ذات صلة بالتشويش على الانتخابات الرئاسية المقبلة. وتكرس هذا الأمر، في أول رد لرئيس الحكومة، أحمد أويحيى، على مبادرة حنون لجمع مليون ونصف المليون توقيع لمطالبة الرئيس باستدعاء انتخابات مجلس تأسيسي. وشجب أويحيى إطلاق هكذا مبادرة، واعتبرها تشويشاً سياسياً على الانتخابات الرئاسية، وذلك قبل 14 شهراً من موعد إجرائها. وقال "لاحظنا عودة الحديث عن مجلس تأسيسي، وسمعنا عن مبادرة من هذا النوع، وهي مبادرة تنكشف سريعاً عندما تتحدث عن إنقاذ الجزائر. أنا أسأل: إنقاذ الجزائر من من؟". وتعتقد الحكومة أنها ما زالت قادرة على المناورة باعتماد الحل الأمني لمواجهة التوترات الراهنة، لكنها تراجعت عن ذلك لاحقاً خوفاً من انزلاق الأوضاع وتطورها إلى حالة عصيان مدني، خصوصاً بعد رفض النقابات، التي شرعت في إضرابات في قطاعات النقل والصحة والجامعات والكهرباء والبريد وغيرها، لقرار عدم شرعية الإضرابات. كما تعيد الحكومة في هكذا مناخات طرح المخاوف الأمنية والتهديدات الإرهابية على الحدود في الجنوب، وهو ما عبر عنه وزير الداخلية الجزائري، نور الدين بدوي، بقوله "دعونا نستعمل المؤسسات الأمنية الدستورية في تأمين الحدود"، في إشارة منه إلى عدم شغل أجهزة الأمن بالاحتجاجات الداخلية في مواجهة التحديات الأمنية المحيطة بالبلاد.
ووصف الباحث في علم الاجتماع السياسي، ناصر جابي، لـ"العربي الجديد"، السلوك الحكومي بأنه "تخبط واضح، ولا يمكن تصور كيف سيكون في سنة 2019، التي يتوقع الجميع أنها ستكون أصعب". وذهب جابي إلى أن الاضرابات الراهنة التي تشهدها الجزائر كانت متوقعة منذ فترة، بسبب تردي الوضع المعيشي وإخفاق الحكومة في حلحلة مجمل المشاكل السياسية والاجتماعية، مشيراً إلى أن الأخطر في الوضع الراهن أن الحكومة لا تملك استراتيجية رسمية لمواجهة تصاعد الغليان الاجتماعي. وقال "كل الجزائريين توقعوا أن تكون سنة 2018 سنة الحراك الاجتماعي المطلبي بامتياز، والحكومة نفسها توقعت الشيء ذاته، وزادت عليه بالقول إن سنة 2019 ستكون أصعب. والغريب أن توقعات الحكومة ومؤسسات الدولة الأخرى لم تترجم استراتيجية واضحة للتعامل مع هذا الحراك الذي لم يكن سراً". وأضاف "نشاهد تخبطاً قل نظيره في التعامل مع الحراك. رئيس حكومة غائب، ووزراء لا يعرفون ماذا يقولون وكيف يتصرفون وبماذا يصرحون، وتهديد بالمس بالحقوق الدستورية للجزائريين كالحق في الإضراب وحتى تلميح بحل النقابات".
ووجدت المعارضة السياسية في الوضع الراهن، المتوتر سياسياً واجتماعياً، والإخفاقات المتتالية للحكومة في كيفية التعامل مع الأزمة المالية الخانقة، بسبب تراجع أسعار النفط ومداخيل البلاد، المناخ المناسب لتجدد مطلب مجلس تأسيسي ومرحلة انتقالية ودستور توافقي. وظلت قوى سياسية معارضة في الجزائر، خصوصاً منذ إقرار التعددية السياسية في البلاد في عام 1989، تطالب بإنشاء مجلس تأسيسي يؤسس للجمهورية الثانية، بعد فشل الدولة الوطنية، التي تأسست بعد الاستقلال مباشرة، واجتياز البلاد مراحل دامية وصلت حد الاقتتال الداخلي، على خلفية أن النظام السياسي القائم في البلاد لا يستند إلى شرعية سياسية، بحكم الظروف التي سيطر فيها الجيش على مقاليد الحكم عبر الانقلاب على الحكومة المؤقتة في صيف 1962، ثم الانقلاب العسكري على الرئيس أحمد بن بلة، في يونيو/حزيران 1965. وظل "المجلس التأسيسي" أبرز المطالب التاريخية لحزب جبهة القوى الاشتراكية الذي قاده الزعيم الراحل، حسين آيت أحمد، وحزب العمال اليساري، الذي تقوده المرشحة السابقة للرئاسة، لويزة حنون. وانضم إليهما الأمين العام لحزب جبهة التحرير الوطني (حزب السلطة) وأحد كوادر ثورة التحرير الراحل، عبد الحميد مهري، إلى خيار إعادة التأسيس. وأقر مهري، في رسالة وجهها إلى بوتفليقة، في فبراير/شباط 2011، أن "نظام الحكم الذي أقيم بعد الاستقلال انطلق من تحليل خاطئ لما تقتضيه مرحلة بناء الدولة الوطنية. فقد اختار بعض قادة الثورة، في غمرة الأزمة التي عرفتها البلاد سنة 1962، استراتيجية سياسية انتقائية لمواجهة مرحلة البناء بدل الاستراتيجية الجامعة التي اعتمدها بيان نوفمبر/تشرين الثاني 1954".