لا يجد رئيس الحكومة الجزائرية أحمد أويحيى حرجاً في أن يُقر، بكل الجرأة السياسية التي يملك، بأن الجزائر تُحكم من خارج الدستور المنظم لمؤسسات الدولة والعلاقات الوظيفية بينها. الجزائر تحكمها سياسة "الأمر الواقع"، كما قال خلال مؤتمره الصحافي الأخير. وسياسة "الأمر الواقع" هذه، هي التي قادت الجزائر إلى فتنة التسعينيات الدامية ومزقتها تمزيقاً، حين حاولت الجبهة الإسلامية للإنقاذ في 1991 فرض منطق الأمر الواقع ورفعت شعار "لا ميثاق لا دستور"، قابلتها جبهة جنرالات الجيش بمنطق الأمر الواقع أيضاً. جيشت جبهة الإنقاذ الشارع وسيّر العسكر الدبابة. وحين التحم الصفان تم تحييد الدستور وإنشاء هيئة حكم غير دستورية (المجلس الأعلى للدولة)، وحسمت سياسة الأمر الواقع الوضع لصالح العسكر.
يمكن لأي جزائري أن يسأل في وضع كهذا، ما هو الفرق بين شعار الجبهة الإسلامية للإنقاذ في بداية التسعينيات "لا ميثاق لا دستور"، والذي عدّ انقلاباً على الديمقراطية سبق انقلاب الجيش على الانتخابات، وبين ما رفعه رئيس الحكومة أحمد أويحيى، الذي يتردد على هذا المنصب منذ عام 1997، من شعار "الأمر الواقع لا الدستور"، وطلبه من رئيس البرلمان السعيد بوحجة، بحكم "الأمر الواقع" وليس بحكم الدستور، الاستقالة من منصبه استجابة للائحة سحب الثقة منه من قبل النواب (إجراء غير دستوري)، على خلفية الأزمة النيابية الراهنة وغير المسبوقة في الجزائر.
ما الفرق بين جبهة الإنقاذ التي اعتقدت أن حصولها على شرعية الصندوق في انتخابات يونيو/ حزيران 1990، يتيح لها تحييد الدستور وفرض منطق "الأمر الواقع" باسم الأكثرية، وبين رئيس الحكومة الذي يعتقد أن توقيع أكثرية النواب على لائحة نيابية تتيح لحزبه (التجمع الوطني الديمقراطي) وشركائه تحييد الدستور، وفرض منطق "الأمر الواقع" باسم الأكثرية. إنه المنطق نفسه الذي يقود إلى التهور، والتهور نفسه الذي يقود إلى النتائج نفسها، هدم مؤسسات الدولة والنظام الجمهوري لصالح الفوضى.
حين ينحاز رئيس الحكومة الجزائرية إلى منطق "الأمر الواقع"، فإنه لا يكشف سراً، لأنه لا أحد في الجزائر ولا في محيطها الإقليمي والدولي يعرف كيف يُدار البلد الذي تتشابك فيه السلطة التنفيذية بالتشريعية والقضائية بدل أن تشتبك هذه السلطات الثلاث، كل وفقاً لصلاحياتها الدستورية، في إطار الرقابة المتبادلة على إدارة الشأن العام وصيانة الدستور. أويحيى، الذي يفترض أن ينحاز إلى الدستور لا يبيح مستوراً أيضاً، لأنه حتى 361 نائباً الذين وقعوا على لائحة سحب الثقة من رئيس البرلمان، لا تعرف الغالبية الغالبة منهم، من هي الجهة التي طلبت منهم التوقيع على اللائحة، وما الأسباب الداعية للانقلاب على رئيس البرلمان، مع أنه لو كانت الرئاسة تريد تغيير رئيس البرلمان لاكتفت برسول ورسالة قصيرة، كما حدث مع الأمين العام لحزب السلطة جبهة التحرير الوطني عمار سعداني في أكتوبر/ تشرين الأول 2016.
منزل الفوضى ها هنا، ومنزلة التهور في تكريس الروح الانقلابية على المؤسسات والدستور. الديمقراطية تتشرب من احترام الدستور نصاً وروحاً. أما "الأمر الواقع" فهو منطق يبتعد عن القانون ويقترب من السلوك العصابي، وهو منطق الدولة الموازية لدولة الدستور والمؤسسات.