لم يمر شهر على رحيل الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة عن السلطة، حتى بدأت محاكمة مبكرة لرجالات عهده، سياسيين ووزراء، قادة عسكريين ومسؤولين أمنيين، رجال أعمال ومقربين منه، كانوا يمثّلون واجهات الحكم ويُنفذون برنامج التدمير الشامل الذي نقل البلد من جحيم الأزمة الأمنية إلى جحيم الاستغلال البشع. من الناحية الإجرائية، تبدو قضايا الفساد ذات طابع شخصي تخص المتورطين أنفسهم، لكنها في الحقيقة محاكمة لعهدٍ، وانكشاف زيف 20 عاماً من الحكم الفردي والديكتاتورية الناعمة.
خلال الأزمة الأمنية الدامية في التسعينيات، كان الجزائريون يعرفون عدوهم الظاهر، الإرهاب بأشخاصه وجماعاته، يعرفون من يموّل ومن يستفيد، يعرفون الكيانات المسلحة عدوة الحياة التي كانت تقوم بتخريب النسيج المجتمعي وتدمر النسيج الاقتصادي، وتحاول أن تستولي على خيارات الجزائريين ومستقبلهم، لكن في مرحلة بوتفليقة، لم يكن ممكناً للجزائريين معرفة عدوهم الحقيقي "الفساد"، الذي أقام له مرتعاً داخل البيت الرسمي وفي قلب مؤسسات الدولة السياسية والأمنية والعسكرية.
الفساد مثل الإرهاب لا لون له ولا دين، وهو مثل الإرهاب أيضاً لا يعترف بالحدود والجغرافيا، وفي استحقاقات أمنية كثيرة ظهر جلياً التحالف الغريب للإرهاب مع الفساد. أوجد الفساد، المنتج للظلم والضيم، كل المبررات للإرهاب والتطرف، فعلّقت الجماعات الدموية سيفها على مشجب الفساد، وفي المقابل علّق الفساد معطفه الذي يخفي التلاعب بالمقدرات العامة على مشجب الإرهاب، فكم من مصنع أحرقته يد العابثين أو جزء منه لتبرير تسريح العمال وتبخيس ثمنه، ودُوّن ذلك على سجل الإرهاب الذي مَكّن الفساد وغطى على بشاعته وكان المبرر لمصادرة ونهب حقوق آلاف الجزائريين، حتى صار تزوير الانتخابات واجباً جمهورياً، وانتخابات 1995 و1997 نموذجاً.
انتصر الجزائريون على الإرهاب في أقل من عشر سنوات وانكشف زيفه، على الرغم من الكلفة الدامية التي دفعتها البلاد بشرياً ومادياً، لكنهم انتظروا 20 عاماً للاستفاقة من "بهتان" كبير ومن ثعبان كان يلتف على رقبة البلاد ومقدراتها. والفرق هنا أن الإرهاب لم يكن يحظى برعاية دولة، لكن الفساد كان يحظى برعاية من الدولة ومؤسساتها ورجالاتها، بل إنه كان جزءاً من مراسيم الحكومة والوزارات والمحافظين والبنوك والقضاء والأمن حتى.
المعركة الجديدة ضد الفساد في الجزائر ليست أقل شرفاً من المعركة ضد الإرهاب، ان لم تكن أكثر استحقاقاً، ليست فقط معركة شعب ضد عصابة رسمية نهبت مقدراته، لكنها أيضاً استحقاق تاريخي للقضاء الجزائري لاستعادة شرفه، بل معركة القضاة أنفسهم للتطهر من مظالم ارتُكبت باسمهم، وكانت منظومة الفساد تستغلهم بالضغوط والإكراهات.