يصل وفد قضائي، يضم قاضيين وخبراء، اليوم، إلى الجزائر لإنعاش ملف التحقيق في حادثة اغتيال سبعة رهبان فرنسيين من قبل الجماعة الإسلامية المسلّحة، بعد خطفهم من دير سيدة الأطلس في تيبحيرين، بمنطقة المدية، 120 كيلومتراً، جنوب العاصمة الجزائرية عام 1996.
وأعلن القاضي المختص في مكافحة الإرهاب، مارك تريفديك، لإذاعة فرنسية، أنه سيزور الجزائر، اليوم وغداً الاثنين، للمشاركة في عملية نبش وفحص رفات الرهبان السبعة، وهم الأب لوك وكريستوف وبول وسيليستان وبرونو وميشال والأب كريستيان، في إطار التحقيق في اغتيالهم.
وكانت زيارة القاضي الفرنسي قد تأجلت مرتين السنة الجارية، بطلب من السلطات الجزائرية، قبل أن توافق الأخيرة في شهر سبتمبر/أيلول الماضي، على تنفيذ هذه الزيارة.
ووصف ترفيديك مهمته، بـ"المهمة والصعبة في الوقت نفسه، لإنهاء مأساة أُسر الرهبان السبعة التي تعاني ضغطاً شديداً. إنها لحظة فريدة لإظهار أن فرنسا والجزائر قد تتعاونان قضائيا في قضية حساسة".
وأكد القاضي الفرنسي أن "فريقاً من الخبراء المتخصصين سيرافقهم للعمل مع قضاة جزائريين، في إطار التعاون القضائي بين البلدين". وأضاف "أنا مقتنع بأن الدولة الجزائرية لها مصلحة، وتريد أن تجد حلاً نهائياً لإغلاق هذه القضية".
وبقيت قضية خطف واغتيال الرهبان الفرنسيين في دير تيبحيرين، بمنطقة المدية، لأكثر من 15 سنة، إحدى القضايا الخلافية المثيرة للجدل في العلاقات الجزائرية الفرنسية، خلال السنوات الأخيرة.
وكانت مجموعة مسلحة قد اختطفت الرهبان الفرنسيين السبعة ليلة 26ـ27 مارس/آذار 1996، من كنيستهم في منطقة تيبحيرين بولاية المدية، قبل أن يتم العثور على جماجمهم في شهر مايو/أيار عام 1996 من العام نفسه، فيما لم يتم العثور حتى الآن على جثثهم.
وتبنى تنظيم "الجماعة الإسلامية المسلحة" في بيان أصدره آنذاك، عملية الاغتيال، واعتبرها رداً على التعاون الأمني بين فرنسا والحكومة الجزائرية في تلك الفترة.
وتشكك بعض الأطراف غير الرسمية في فرنسا، أن يكون للجيش الجزائري يد في مقتل الرهبان السبعة، خلال محاولة الجيش تحريرهم من خاطفيهم. لكن رئيس ديوان الرئاسة الجزائرية، أحمد أويحيى، أكد في تصريح سابق أن الجزائر ليس لديها ما تخفيه بشأن قضية اغتيال الرهبان الفرنسيين السبعة.
ونجح فريق صحفي جزائري، في مايو/أيار 2013، في إنجاز فيلم وثائقي لصالح قناة فرنسية، ومدته 62 دقيقة بعنوان "عذاب الرهبان السبعة لتيبحيرين"، استعرض تفاصيل خطفهم واغتيالهم، كما تضمن سلسلة من الشهادات لكبار قيادات الجماعة المسلحة وعناصرها الذين كانوا على صلة بالعملية، فضلاً عن شهادات لمسؤولين وعسكريين وسياسيين جزائريين، وبعض الشهادات لكبار المسؤولين في فرنسا، الذين كانوا يديرون أزمة الرهبان المختطفين آنداك.
ويظهر في الفيلم حارس الدير، محمد بن علي، الشاهد المباشر على عملية الاختطاف، والذي روى بكثير من التأثر ليلة 27 مارس/آذار 1996، كيفية نجاته من عملية الاختطاف وبقائه على قيد الحياة.
ويروي هذا الشاهد "جاء المسلحون في تلك الليلة برفقة قائدهم الذي أراد التحدث للأب كريستيان. كان ذا لحية شقراء طويلة ويحمل نظارة، إنه الدموي أبو حارث أحد القادة الصغار للجماعة الإسلامية المسلحة، سألني الإرهابيون هل يوجد في الكنيسة سبعة أو ثمانية رهبان؟ لكنني خاطرت بحياتي، وقلت لهم إنهم سبعة فقط، مع أنني كنت أعرف جيداً أنه كان هناك تسعة رهبان في الدير، و15 ضيفاً من رجال الدين".
ويتابع "ثم جاؤوا الرهبان وهم نيام، إذ لم يكن بوسعهم ارتداء ملابسهم بشكل جيد. أخرجوهم بسرعة وأخذوهم، وعندما شعرت بأن الإرهابيين غضوا الطرف عني، عدت وفررت إلى الحظيرة، ركضت واختبأت في دغل لم أتحرك منه حتى طلوع النهار، وعند طلوع النهار ذهب الرهبان الذين بقوا في الكنيسة لإبلاغ السلطات بالحادث".
الجيش الجزائري، فتش "كل المناطق التي اشتبه في أن تتخذ كملجأ، والله يعلم أنها كانت شاسعة وتحتوي على مناطق يمكن الاختباء فيها بكل سهولة"، وفقاً لشهادة العميد في قيادة القوات البرية، عبد الرزاق معيزة حول الحادثة. ويضيف "عمليات المحاصرة الأولى لم تعط أية نتيجة، بسبب غياب معلومات دقيقة حول مكان اعتقال الرهبان. كانت عمليات التمشيط للجيش الجزائري عديمة الجدوى".
أما عمر شيخي، وهو أبرز قيادات الجماعة الإسلامية المسلحة، فيؤكد في شهادته أن "الجماعة زرعت الرعب في أوساط السكان، وقائدها جمال زيتوني كان يقول لي إن السجانين المكلفين بحراسة الرهبان، كانوا يضعون أسلحتهم عندما يرونهم يؤدون صلاتهم، مما دفعه إلى تغييرهم باستمرار".
من جهته، يوضح حسان حطاب، الذي انشق عن الجماعة الإسلامية المسلحة بعد حادثة مقتل الرهبان السبعة، وأسس "الجماعة السلفية للدعوة والقتال"، ليعود ويسلّم نفسه إلى السلطات قبل ثلاث سنوات، أن "جمال زيتوني زعيم الجماعة الإسلامية المسلحة، استدعاني ليعلمني أنه قتل الرهبان، فأجبته أنه لا يمكننا أن نواصل العمل معاً، وقلت له أنت تخاف من رجالك أكثر من خوفك من الله".
كما يظهر في الفيلم الوثائقي، أبو إيمان، وهو آخر سجان كان مكلفا بحراسة الرهبان السبعة المغتالين وحضر عملية قطع رؤوسهم، وقال "الرهبان السبعة ذبحوا جميعهم بكل برودة، لم يتم إطلاق أية رصاصة، قال لي أحد المسلحين، خذ اذبح، كنت مرعوباً، فدفعني ثم ذبح أحد الرهبان".
وقال أبو محمد، الذي كان أميراً جهوياً في "الجماعة الإسلامية المسلحة"، إن "أمير الجماعة الإسلامية المسلحة، زيتوني، قرر التخلص من الرهبان ببرودة كبيرة، لم يكن من السهل التخلص من أجسادهم كاملة، فقاموا بتقطيعها، وقد دفنت الجثامين في جبال بوقرة، وأنا حملت الرؤوس في سيارة ورميتها على الطريق تحت شجرة قرب مدينة المدية حيث وجدهم المارة".
كذلك أدلى القيادي في الجماعة والمقرب من أميرها جمال زيتوني، العيد شابو، بشهادته قائلاً "زيتوني كان يقول لنا إن من يقتل الرهبان سيتقرب من الله، وكان جميع المسلحين متعطشين للقتل، لم يكن بينهم واحد أعرض عن ذبح الرهبان السبعة، مخالفاً بذلك شهادة حسان الحطاب الذي ادعى أنه كان ضد اغتيال الرهبان".
ويكشف الحارس الخاص لزعيم "الجماعة الإسلامية المسلحة"، فتحي بوكابوس، أنه "عندما أخذنا الرهبان إلى جمال زيتوني، حضرت المحادثات لصياغة البيان الـ43 للجماعة الإسلامية، والذي كان يطالب بإطلاق سراح عبد الحق العيادة، مؤسس الجماعة، والذي اعتقل في المغرب وسلم إلى الجزائر". ويشير إلى أن "اختطاف الرهبان كان يهدف إلى حمل فرنسا على الاعتراف بالجماعة الإسلامية المسلحة كطرف محاور".
ويقول أمير "الجماعة" في منطقة المدية، علي بن حجر إن "مقتل الرهبان السبعة كان تنفيذا لقرار الجماعة: اعتبار كل أجنبي يبقى في الجزائر هدفاً لها، بعد تاريخ 31 ديسمبر/كانون الأول 1993، واعترف بتنفيذ الإعدام بـ12 كرواتياً كانوا يعملون مع شركة في المنطقة".
ويكشف الفيلم الوثائقي أن رئيس بلدية "الفار" في فرنسا، جون شارل ماركياني، اقترح على الرئيس الفرنسي آنذاك، جاك شيراك، عن طريق وزير الداخلية، شارل باسكوا، القيام بمفاوضات سرية مع المجموعة المسلحة لتحرير الرهبان، لكن كشف الصحافة الفرنسية لهذه الخطوة، دفع وزير الخارجية الفرنسي، آلان جوبيه، إلى إصدار أمر بإنهاء مهمة ماركياني، وأعلن رفضه تدخل مصالح موازية في شؤون الدولة.
وقال ماركياني إنه "أخطر السلطات الفرنسية بأنه في حال توقيف كل شيء سيقتل الرهبان قريباً، وفعلاً، وبعد مرور وقت قصير أصدر أمير الجماعة الإسلامية المسلحة، جمال زيتوني، البيان رقم 44، الذي أعلن فيه أن الرئيس الفرنسي ووزير الشؤون الخارجية صرحا بأنهما لن يتفاوضا مع الجماعة الإسلامية المسلحة، لقد قرروا وقف كل ما تم القيام به، فقمنا بقطع رؤوس الرهبان".
وبعد 17 عاماً على هذه القصة المأساوية، ما زال ملف اغتيال الرهبان السبعة مفتوحاً لمزيد من الحقائق التي قد تنجلي، لتنهي جدلاً أرهق الساسة في الجزائر وباريس.