الجامعيون السوريون في تركيا وكف العفريت

23 يوليو 2016
يبحث الشباب عن أي فرصة عمل (فرانس برس)
+ الخط -

حين حمل ذلك الشاب قطع الأثاث وصعد بها إلى الطابق الرابع، حيث أسكن، تيقّنت بسهولة من خلال المجهود الهائل الذي بذله، بأنه حديث العهد بهذا النوع من الأعمال.

كان شلال من قطرات العرق قد تجّمع وراح ينسكب من جبهته على أرض الغرفة، وجهه محمرّ حدّ الاختناق، فيما يحاول زميله مساعدته على حمل الأثاث، ولكنّه مصرّ على حملها وحده. حين أخذ يشرب كأس الماء، دار حديث بسيط بيننا، عرفت منه أنه كان يدرس في كلية الحقوق، وأنه اعتقل قبل أن ينتقل إلى السنة الرابعة، والتحق بإحدى الفصائل العسكرية المقاتلة في حمص، ثم خرج منها إلى تركيا، مع الشباب الذين خرجوا من حصار حمص القديمة، بعد أن أصيب إصابة بالغة في قدمه، ما اضطره لعلاجها في تركيا.


ليست حالة "هشام" استثناءً في حال من الأحوال، فمعظم الشباب المتعلّمين والجامعيين يعانون من عدم توافر فرص عمل تتناسب ومؤهّلاتهم العلمية، ما يضطرّهم للعمل في مجالات تقتضي جهداً عضلياً لم يعتادوه، وفي ظروف بالغة القسوة، وأن يقبلوا بأجور متدنية، لا تتجاوز مبلغ 150 دولاراً شهرياً، في بعض الأحوال، وهو مبلغ لا يتناسب وتكاليف الحياة الباهظة في تركيا.

لقد حُكم على جيلٍ كاملِ من الشباب أن تقضي ثقافة الموت على كل أحلامهم، وتبدّد كل أمل لهم بتحقيق الأحلام التي رسموها، فبات أقصى أملهم هو الحصول على فرصة عمل تسدّ رمقهم، وتتيح لهم المجال لإعالة ذويهم، وقد يجد هذا الشاب نفسه مضطراً لإعالة عائلتين أو ثلاث عائلات لم يتبق لها معيل سواه، في وقت توصد أسواق العمل أبوابها في وجهه، لعدة اعتبارات.

لسوء طالع هؤلاء الشباب أنّ فرص العمل في المنظمات الإنسانية والإغاثية المنتشرة في الجنوب التركي تتطلب حصول هؤلاء الشبان على الإجازة الجامعية التي لم يتسنّ لهم الحصول عليها، بسبب انخراطهم الفعلي في الثورة حين كانوا طلاباً، ما تسبب بإصابتهم أو اعتقالهم، أو بتهديد حياتهم فعلياً؛ الأمر الذي حدا بهم إلى التفريط بحلمهم في إتمام دراستهم، ومغادرة البلد.

الخيار الثاني هو أن يختار هذا الشاب عملاً يتطلب جهداً عضلياً أو العمل في ميدان لا يمتلك فيه أي خبرة، بصفة "صانع" أو "شغيل"؛ هذه المهن التي تتطلب مجهوداً شاقاً، كما أنّ دخلها متدنٍ للغاية.

مع كل الصعوبات التي تواجههم، تجد أن هؤلاء الشبان مصرّون على إيجاد أي نوع من العمل، ليس من أجلهم وحدهم فقط، بل من أجل عائلاتهم التي لم تعد لديها فرصة للحياة إلا من خلال ما يستطيعون تقديمه لها.

عمر.. ذلك الشاب الذي يبلغ من العمر خمساً وعشرين سنة، وهو أب لطفلة في شهرها الخامس، لم يستطع أن يحصل على فرصة عمل في أنطاكيا، في أيّ من المدارس السورية، وهو الحاصل على إجازة في التربية، فانتقل إلى إسطنبول ليجد له فرصة عمل، بعد أن تخلى عن العمل بصفة إعلامي مع أحد الفصائل العسكرية، ذلك القرار الذي اتخذه بعد أن رزق بطفلته، حيث تمكن من العثور على عمل بدخل مقداره 1000 ليرة تركية، أي أقل من 350 دولاراً، وبالرغم من تدني أجره، وكونه يسكن مع أسرة أخرى في المنزل، ضغطاً للمصاريف، إلا أنه يقتطع من دخله الشهري 200 ليرة تركية لوالده، كمساهمة في مصاريف إخوته، خاصة بعد الإصابة التي تعرّض لها والده فجعلته عاجزاً عن العمل.

خريجات جامعيات كثيرات، اضطررن للعمل في ورشات الخياطة والتطريز، وتجهيز المؤن، وقطاف المحاصيل، في مختلف المدن التركية، لمساعدة عائلاتهن، أو إطعام أولادهن، بعد أن وجدن أنفسهن في مواجهة غول الجوع، مع أن المنظمات العاملة في الشأن السوري كثيرة جداً، ولكن الوساطات تلعب دورها في انتقاء العاملين، خاصة مع ازدهار تجارة الشهادات الجامعية المزورة، التي أقصت أصحاب الأحقية في هذه الوظائف، ليتلقفها أصحاب رؤوس الأموال القادرين على شراء شهادات جامعية مزورة.

وما يزيد من الوضع تعقيداً هو القوانين التركية التي تضيّق على بعض المنظمات، حيث فقد الآلاف من الشبان العاملين في هذه المنظمات فرص عملهم، بسبب فرض إجراءات الترخيص، وإذن العمل الذي لا يتمكن من استصداره إلا حَمَلة جوازات السفر سارية المفعول، كما فرضت وجود خمسة موظفين أتراك، في مقابل كلّ موظف سوري جديد، ما جعل الكثير من المنظمات تعزف عن تعيين أي موظف سوري جديد، وهو ما تسبب في تفاقم أزمة العمل في صفوف الجامعيين، خاصة كونها عملياً هي الفرص الأنسب لاحتواء هذه الفئة.

لا نستطيع إنكار أن فئة محدودة من الجامعيين قد حصلوا على فرص عمل تفوق إمكاناتهم في بعض الأحيان، لاعتبارات كثيرة، ولكن القسم الأكبر وجدوا أنفسهم مضطرين للبقاء في تركيا، بسبب الوعود الدائمة بمنحهم الجنسية التركية في بعض الأحيان، أو لأنهم مرتبطين بإعالة أسرهم وأسر أخرى في أحيان أخرى، وبهذا لن يكونوا قادرين على إدارة ظهرهم لهذه المسؤوليات، ويبقى خيارهم الوحيد البقاء في تركيا، على كفّ عفريت!