الجابري/ طرابيشي: لولبة النقد

03 مايو 2015
جامع نصير الملك، إيران، تصوير: رامين رحماني نجاد
+ الخط -

يبدو حوار عابد الجابري وجورج طرابيشي شبيهاً بما عاشته النخب الألمانية في القرن التاسع عشر. مؤلفات ماركس وأنجلز مثلاً في أربعينيات ذلك القرن مثل "الإيديولوجيا الألمانية" أو "الأسرة المقدسة" (بعنوان فرعي: نقد النقد النقدي) كانت عبارة عن نقد لكتابات أستاذهما هيغل وأتباعه.

غير أن العلاقة بين الجابري (1936) وطرابيشي (1939) ليست علاقة تتلمذ، إنهما من جيل واحد تقريباً، وبالتالي فهي تشير إلى ما يشبه حالة من النقد والنقد المضاد استبدّت فجأة بالنخبة المفكرة العربية. ونحن هنا نتساءل عن ثمار هذا المشروع ودرجة وصولها إلى الحياة العامة العربية. كلاهما وضع سؤال "عوامل إعاقة العقل العربي" كمسألة محورية للتفكير، ولا يبدو أن هذا الجدال حيّ بدرجة كافية خارج الكتابات.

عند سؤال "إعاقة العقل العربي"، نتبيّن أحد أهم المفترقات بين الرجلين. الجابري اعتبرها نتيجة لغزو خارجي بفعل تسرّب عدة موروثات ما قبل قرآنية، للحضارات التي امتد لها الإسلام جغرافياً، مثل الفلسفات الإشراقية والتصوّف والغنوصية. بينما رأى طرابيشي أن الأمر متعلق بآليات داخلية سمّاها بـ"انكماش العقل العربي على ذاته"، في مؤلفه "المعجزة أو سبات العقل في الإسلام"، رابطاً بين "استقالة العقل" والانقلاب "من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث".

على عكس القراءة الظاهرية، تبدو المقاربتان متكاملتين، كما أنهما في العمق قراءتان متفائلتان من منظور كونهما تدعوان في النهاية، لخروج العقل العربي من مأزق الإعاقة الذي يصبح ممكناً بعد تفكيك أسبابها.

في جميع الحالات، فالجابري وطرابيشي مظلومان، إذ إن مقروئية كل مشروع ضعيفة. ربما يظلم كلاهما ضخامة العمل الذي أقدما عليه، ولكنه يؤشر أيضاً إلى همزة وصل غائبة بين عالم المفكرين والحياة العامة في العالم العربي. لا يجسّر هذه الهوة لا منظومة النشر ولا مراكز الأبحاث ولا المؤسسات الجامعية أو الإعلامية.

إن السؤال عن انسيابية الفكر أي درجة مرور الأفكار للحياة العامة والتأثير فيها، جزء من أي مشروع حضاري. فإذا كان كل من الجابري وطرابيشي قد انبرى يشتغل على مشروع بهذا الحجم، فقد ظُلما بسبب قلة انسيابية الأفكار في العالم العربي اليوم، حتى إن الجدال بينهما لم يتخط جدال الكتابة، ولم نشهد بعد قراءة لما أنجزاه من أجيال المفكرين اللاحقة.

كتب الجابري حول مشروعه: "كان يجب أن ينطلق القول فيه منذ مائة سنة". يقول ذلك باعتبار أن نقد العقل أمر ضروري لكل مشروع للنهضة، كالذي طرحه المفكّرون العرب في نهايات القرن التاسع عشر.

يقول أيضاً "هل يمكن بناء نهضة بغير عقل ناهض، عقل لم يقم بمراجعة شاملة لآلياته ومفاهيمه ورؤاه؟". لكنه لم يتحدث عن وضع تُنجز فيه هذه المراجعة، وبمقاربتين مختلفتين، ثم لا تجد طريقاً لتمرّ إلى العقول بشكل موسّع. ولعل نسق التغيّر في العالم العربي اليوم، سبب إضافي لبقاء ثمار "نقد العقل العربي" بعيدة عن التأثير.

المساهمون