الثورة السورية.. ومفاوضات في أتون المحنة (2-4)

06 أكتوبر 2017

بين أنقاض أحدثها قصف روسي في حلب (24/12/2016/لأناضول)

+ الخط -
(1)
فشلت المعركة الثانية لكسر الحصار عن حلب (نوفمبر/ تشرين الثاني 2016)، والتي واجهت فيها فصائل الثورة السورية سلاح الجو الروسي، بكامل طاقته، وآلافا من مليشيات شيعية متعدّدة الجنسيات، لتبدأ مرحلة إطباق الحصار وتدمير الأحياء الشرقية لحلب، وكل ملامح الحياة فيها، في مشهد إجرامي شابه، إن لم يتجاوز، مشاهد التدمير في الحرب العالمية الثانية.
وعلى الرغم من وحشية العدوان الروسي الإيراني، والضغط العسكري الهائل على خطوط المواجهة، قرّرت جبهة النصرة، مع حركة الزنكي وسرية أبو عمارة، مهاجمة "تجمع فاستقم" من الجيش الحر داخل مدينة حلب المحاصرة، والذي كان واحداً من أهم الفصائل المحاصرة وأكثرها تنظيماً، كما أنه الفصيل الحلبي الوحيد الذي كان قائده العام داخل حلب المحاصرة، ما ساهم، إلى جانب القصف وأسباب أخرى، في اختلال الخطوط الدفاعية وانكسارها في عدة جبهات، ما جعل شبح المذبحة بحق أكثر من مائة وخمسين ألف محاصر يخيّم على أجواء الأحياء المحاصرة.
غادرتُ تحت جنح الظلام منطقة سوق الجبس، أحد أسخن خطوط المواجهة مع الإيرانيين والقناصين الروس، لأعود مع المقاتلين مسرعين إلى بابسقا المجاورة للحدود التركية، لمنع رتل الزنكي من الوصول والاستيلاء على مقر قيادة الريف في "تجمع فاستقم" في جبل بابسقا، على وقع انقضاض قاذفات السوخوي وقصفها قرى ريف حلب الغربي بالعنقودي والنابالم. انتشرنا على قمة جبل بابسقا بعد منتصف الليل، مع قوات من جيش الإسلام وصقور الشام وتجمع فاستقم، لحماية مقر القيادة.
في تلك الأثناء، نفذت طائرة سوخوي روسية غارة جوية على خان العسل في ريف حلب
الغربي، أضاءت واهتزت لها كلّ إدلب وريفها، بما في ذلك الجبل الذي رابطنا عليه. حينها لعنت قادة الفصائل وجبهة النصرة التي دفعت ثوارا كثيرين لترك نقاط المواجهة مع هذا الإجرام الروسي وجموع المليشيات الطائفية، لتغزو مخازن سلاح لفصيل يرابط معهم، ودفعت آخرين إلى ترك نقاط الاشتباك مع جموع المليشيات الطائفية القذرة لتدافع عن مقارها وسلاحها. ولم يكن في تلك الفصائل من المروءة ما يجعلها تحترم أشلاء المدنيين ومنازلهم التي كانت تحترق بفعل النابالم والعنقودي الروسي.
أحدث هذا المشهد إحباطاً وقهرا دمّرا همة ثوار كثيرين ومعنوياتهم. وساهم، إلى حد كبير، بفقدان الثقة بالنفس وبالفصائل وقادتها، إن لم يكن بالقضية. حطم هذا المشهد معنويات (وإمكانات) شباب غاضب يريد الثأر للمقهورين في حلب، فأخرجهم من معادلة المعركة التي لم يكن في الوسع الانتصار فيها إلا بروح قتالية، تستمد بركان غضبها من تراكم القهر والظلم والتكالب على قضية السوريين، وتستمد إرادتها وتماسكها من الثقة المشتركة بين رفاق الثورة والسلاح، وبين هؤلاء الثوار المقتتلين وشعبهم المقهور.

(2)
في بداية نوفمبر/ تشرين الثاني 2016، وأنا غارق في إحباط فشل معركة كسر حصار حلب، وقهري من الفصائل التي أمعنتْ في إذلالنا وتحطيمنا، على الرغم من شناعة المواجهة مع عدوٍّ أمعن في الإجرام بحق شعبنا، توجهت إلى أنقرة إلى جانب مجموعة من قادة الفصائل، لمناقشة عرض روسي لوقف إطلاق النار في حلب.
كانت المفاوضات مع وفد من وزارة الدفاع وهيئة الأركان الروسية، حاول في مستهلها إظهار رغبة روسيا في المساهمة بحل القضية السورية، وأن روسيا ليست متمسّكة حالياً ببقاء الأسد على رأس السلطة، لكنها ترى أن الطريق المناسب لتغيير الأسد عقد مؤتمر لمختلف فعاليات المجتمع السوري وشرائحه، ويشكل المؤتمر لجنةً لتضع مسودة الدستور، ويتم إجراء انتخابات بمراقبة أممية، استنادا إلى الدستور الجديد. ويشبه هذا كله، إلى حد كبير، المسار الذي يعمل وفقه مبعوث الأمم المتحدة إلى سورية، ستيفان دي ميستورا، ويسيّر من خلاله مفاوضات جنيف. هذا الكلام المعسول كانت تبدده أشلاء ممزقة، بفعل قاذفات السوخوي، وانعدام الثقة بدولةٍ صرّح وزير خارجيتها، سيرغي لافروف، في مستهلّ الثورة السورية، بكلام يقطر حقداً وطائفية، حين قال إنه لا يمكن لروسيا السماح للسنّة بأن يحكموا سورية.. ليقترن التصريح لاحقاً بجسر جوي وجنود وقنابل عنقودية لم تفرق بين مركز للدفاع المدني ومدرسة ومقاتل.
كان وفد القوى العسكرية في أنقرة، والذي كان يمثل كل الفصائل، بما فيها أحرار الشام وجيش الإسلام، باستثناء جبهة النصرة، يدرك المعطيات المؤسفة داخل أحياء حلب الشرقية المحاصرة. لذلك، حاول مراراً المناورة لإنجاز اتفاقٍ يوقف اجتياح حلب، بعد أن باتت مهدّدة، إلى حد كبير، بشبح المذبحة، الأمر الذي دفعه إلى قبول مبدأ التفاوض، وبحث مشروع وقف إطلاق نارٍ شامل، لكن بعد إنجاز اتفاقٍ ينقذ المحاصرين في حلب.
كانت جولات التفاوض الأولى متعثرة للغاية، بسبب انعدام الثقة، واستمرار الروس في
المراوغة في نطاق الهدنة الجغرافي، حيث برز المطلب الروسي في ألا يخصّ الاتفاق المناطق المحاصرة للمعارضة فقط. ولم يكن هذا المطلب مقبولاً لوفد الثوار، بسبب عدم الرغبة بإجراء تفاهماتٍ مباشرة مع روسيا التي كنا نقاتلها قبل أيام فقط، إلا في حدود الحاجة الملحة، والتي كانت تتمثل في إنقاذ حلب من شبح المذبحة. ومن جهةٍ ثانية، كان المطلب الرئيس للروس أن تخرج جبهة النصرة من أي منطقةٍ يشملها الاتفاق، وكان هذا الشرط قابلاً للتنفيذ في حلب، باعتبار العدد القليل لمقاتلي "النصرة"، والضغط الإنساني الشعبي الذي كان ممكنا أن يكون عاملا مساهما في إجبار مسلحي جبهة النصرة على الانسحاب هناك. أما في منطقة إدلب التي ذكرها الروس، فالأمر معقد جدًا، والإشكالية الرئيسية أصلاً أن "النصرة" قد يكون ممكنا أن نجبرها على الانسحاب من حلب إلى إدلب، لكنها تالياً إلى أين ستنسحب، وتعقيدات كثيرة لم يشأ وفد الثوار ربطها بملف حلب المحاصرة.
في الأسبوع الثالث من نوفمبر/ تشرين الثاني 2016، توصّل وفد الثوار والوفد الروسي إلى مسودة اتفاقٍ يقضي بوقف إطلاق النار والضغط العسكري على كل من حلب والوعر والتل، وكلاهما كانتا مهدّدتين بالتهجير القسري، وتم توقيع الاتفاق بالأحرف الأولى بضمانة تركيا وروسيا، وكان يشبه، إلى حد كبير، الاتفاق الذي وقع أخيرا في القاهرة لوقف إطلاق النار في الغوطة، حيث كان سيبقي المناطق الثلاث تحت سيطرة الثوار، والسماح بدخول المساعدات بأنواعها كافة، في مقابل انسحاب مقاتلي جبهة النصرة إلى الوجهة التي يختارونها، مع سلاحهم وعائلاتهم أو بدونهما.
سافر الوفد الروسي متوجها إلى دمشق، ليوقع الأسد على الاتفاق، لكن الوفد الروسي لم يعد إلى أنقرة في الوقت المتفق عليه، متذرعا بتصريحات الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، إن الجيش التركي دخل إلى الأراضي السورية لإنهاء حكم الأسد. في ذلك الوقت، بدأت دفاعات الثوار تنهار داخل حلب الشرقية، ليخسروا لاحقاً مساكن هنانو التي كانت بداية الانهيار السريع لأحياء المدينة المحاصرة، وفي الوقت نفسه وقع ثوار التل اتفاقاً يقضي بخروجهم إلى إدلب، ما جعل الصيغة التي تم التوصل إليها ملغية.
في بداية ديسمبر/ كانون الأول، وعلى وقع الانهيار السريع للثوار في حلب ومحاصرتهم مع عشرات آلاف من المدنيين في عدة أحياء فقط تبقت من القسم المحاصر، عاد الوفد الروسي ليطرح سيناريو وحيداً للاتفاق، وهو خروج جميع الثوار من حلب الشرقية إلى إدلب. كان كلام الضابط الروسي واضحاً، وكان في حقيقة الأمر تهديداً صريحاً، حيث قال: تغير الوضع في الميدان، وهذا العرض هو لمنع استمرار إراقة الدماء.
لم يكن هذا الخيار الذي نطمح إليه، لكنه كان خيارنا الوحيد لإنقاذ المدنيين، ومن تبقوا من ثوار. وتحت ذلك الضغط الإنساني وهول التطورات داخل حلب الشرقية، وافقت الفصائل، لتبدأ عملية تهجير أهالي حلب وثوارها إلى ريف حلب الغربي وإدلب.
أول الخارجين من حلب كان مسلحي جبهة النصرة الذين لو كان لديهم من الشرف والاكتراث
لأمر السوريين ذرة لقتلوا أنفسهم، في بث مباشر، داخل أحياء حلب الشرقية، منعاً لتهجير أهلها، لكنهم كانوا كزعيمهم، الجولاني، بلا شرف ولا ضمير.
بعد وصول مقاتليها إلى إدلب، بدأت جبهة النصرة بممارسة هوايتها في ابتزاز الثورة والعالم، ليبدأ المدعو أبو بلال قدس، الذي كان مسؤول جبهة النصرة في نقطة العبور في الراشدين، بتعطيل عبور الحافلات، وبدأ يحاول فرض شكل جديد لآلية العبور.
في أثناء ابتزاز جبهة النصرة تركيا والوفد التفاوضي، لأجل أن تثبت قوتها على الأرض، وأن على الدول التفاوض معها، كان آلاف من الشباب والنساء والأطفال قد تجمعوا في منطقة الراموسة المدمرة، في انتظار الخروج من حلب، في درجات حرارة اقتربت من الصفر، وتحت هطول الثلج والبرد، ومن دون بيوت، ولا حتى دورات مياه، باتوا ليلتين ينتظرون جبهة النصرة الهاربة أن تقبل المقايضة عليهم. ومن دون وجود خطوط دفاعية حقيقية خلفهم، فيما لو قرّرت المليشيات الإيرانية والأسدية أن ترشّ عليهم النار، أو تقتحم المنطقة. كان المشهد سوريالياً، حسب ما نقلت لنا الصور من داخل حلب، أطفال يبكون حقاً من البرد ونساء بلا مأوى في الثلوج، وآلاف المدنيين متجمعون في مشهد أشبه بالقيامة المصغرة، وبالتيه الكبير للثورة اليتيمة، بينما يتاجر بآلامهم وأرواحهم تنظيم الجولاني، بعدما كان أهم أسباب معاناتهم وتشريدهم وهزيمتهم، وعلى الجانب الآخر كانت حافلات الخارجين من الفوعة وكفريا في وضع مشابهٍ أيضاً، وكثيرون ممن فيها من المدنيين كذلك، إلى أن استجابت جبهة النصرة والمليشيات الإيرانية، وخرجت آخر قوافل المهجرين من حلب في 21/12/2017.

(3)
بعد سقوط حلب، عاود الجانب الروسي طرح وقف إطلاق نارٍ يشمل كل الأراضي السورية، والدخول في مفاوضات مع النظام، لأجل حلحلة القضايا الإنسانية العالقة، مثل المساعدات الإنسانية والمعتقلين والمناطق المحاصرة. وبعد اجتماع قادة الفصائل في أنقرة، أجمع الحضور على أن هدنةً شاملةً أمر محل قبول، لكن الإشكالية في المفاوضات التي ستليها، لأن روسيا راعية لها.
تم الرد على المقترح الروسي بخطة لوقف إطلاق النار، قدّمها وفد الفصائل الثورية الذي غادر أنقرة إلى الشمال السوري، بعد تقديمه هذا المقترح. وبعد يومين، توصلت تركيا وروسيا إلى مسودة اتفاق حول وقف إطلاق نار شامل، وإطلاق مسار مفاوضات في العاصمة الكازاخية أستانة. عرضت المسودة على قادة فصائل من الجيش السوري الحر، ليقرروا التوقيع على الاتفاقية في 30 ديسمبر/ كانون الأول 2016.
قمت في أنقرة، مفوضا من 14 فصيلاً ثوريا في شمال سورية وحمص وريف دمشق وحماة بالتوقيع على اتفاق لوقف إطلاق النار، يتبعه مفاوضات لأجل القضايا الإنسانية العالقة، وفي مقدمتها المعتقلون والمناطق المحاصرة، وبعدها بأيام وقعت الجبهة الجنوبية الاتفاقية.
بعد توقيع الاتفاق، سعت الفصائل الموقعة إلى التشاور مع طيفٍ واسع من الفاعلين في الثورة السورية، من نشطاء وقادة للرأي العام في الداخل. وبمساعدة الحكومة التركية، تمت الدعوة إلى لقاء كبير في أنقرة، شارك فيه أكثر من خمسين شخصية فاعلة في المعارضة من ائتلاف قوى الثورة والمعارضة السورية والهيئة العليا للمفاوضات، وأيضاً في الميدان. وقد جرت في الاجتماع، وعلى مدار يومين، مداولات ونقاشاتٌ قررت بعدها الفصائل الثورية الموافقة على المشاركة في مفاوضات أستانة بوفد ضم كل الفصائل السورية، بما فيها الجبهة الجنوبية، عدا حركة أحرار الشام. وكان قرار الموافقة على المشاركة في المفاوضات يستند إلى عامل جوهري، وهو أن عدم الذهاب يعني عودة السلاح الروسي إلى المواجهة العسكرية المباشرة وعودة الطيران الروسي إلى ممارسة ما يتقنه من قتل للسوريين بالنابالم والفوسفور الأبيض، ليبدأ بعد ذلك مسار أستانة بتفاصيله الإشكالية جداً.

(4)
كان واضحاً أنه بعد حلب بدأ فصل آخر من تغريبة السوري المتروك إلا من الأعداء، ولتبدأ الثورة السورية مرحلة جديدة وخطيرة، على المستويات كافة.