الثقافة التونسية في 2018: سنة للمركزية وسياساتها

05 يناير 2019
(تونس العاصمة عبر واجهة "مدينة الثقافة")
+ الخط -

"اللامركزية"؛ ذلك عنوان كبيرٌ مرفوعٌ منذ زمن طويل في الخطاب السياسي التونسي، وعنه تتفرّع مقولة "اللامركزية الثقافية" التي يقول المسؤولون إنهم يجتهدون في تنفيذها. غير أننا، حين ننظر في تسيير الأمور على أرض الواقع، سنجد اختلافات جوهرية بين "القول" و"العمل"، بل إننا حين نتساءل: ما الذي يكرّس تمركز الحياة الثقافية في تونس العاصمة دون بقية البلاد؟ لن نجد سبباً آخر غير السياسات الثقافية التي ترسمها الدولة منذ عقود.

في 2018، لم يكن الحدث الثقافي الأبرز مهرجاناً أو إنتاجاً جديداً، بل أتى في شكل فضاء جديد ضمن البنية التحتية الثقافية في تونس العاصمة، فكان افتتاح "مدينة الثقافة" في آذار/ مارس الماضي؛ حيّ ثقافي كبير وسط العاصمة، مهيّأ بقاعات عروض ومحاضرات وغير ذلك. كل شيء يبدو جيّداً مع تعدّد الهيئات التي يحتضنها؛ مثل "معهد تونس للترجمة"، و"بيت الرواية"، و"المركز الوطني لفن العرائس".

بعد ذلك، تقاطعت "مدينة الثقافة" في سنتها الأولى مع كل المهرجانات والتظاهرات، من الفعاليات الرمضانية إلى "أيام قرطاج المسرحية"، وفي مناسبات كثيرة عوّضت فضاءات سابقة، كما استُحدثت تظاهرات جديدة على مقاسها.

صحيح أنها بذلك تسدّ فراغاً تعاني منه العاصمة منذ سنوات طويلة على مستوى فضاءات العروض، وأنها زادت بشكل ملحوظ من عدد الفعاليات الثقافية، لكن يحدث أيضاً أن الحيّ الجديد بات، شيئاً فشيئاً، يختزل الحياة الثقافية في المدينة، وهو اختزال يُضاف إلى كون العاصمة تختزل الحياة الثقافية في البلاد منذ عقود. وهكذا فإن المدينة ضاعفت منسوب المركزية في المشهد التونسي. وليس كلّ ذلك، إلا نتيجة لشبه احتكار وزارة الثقافة للفعل الثقافي في تونس.

ما ينفي تهمة "المركزية"، بالنسبة إلى كثيرين، هو أن "مدينة الثقافة" تحتضن، بشكل دوري، فعاليات من مناطق البلاد المختلفة، وأنها خصّصت فضاءً قارّاً للجهات، ولكن يحدث ذلك انطلاقاً من قناعة بأن هذه الفعاليات لن تكون مرئيةً إلّا إذا أتت إلى العاصمة، وإلى "مدينة الثقافة" تحديداً، وهي رؤية تؤكّد أن الثقافة محكوم عليها أن تبقى في الظل أكثر فأكثر في بقية مناطق البلاد.

يشير آخرون إلى برامج مثل "مدن الفنون" و"مدن الآداب والكتاب" (ترعاها أيضاً وزارة الثقافة) كشكل من أشكال اللامركزية الثقافية، غير أن جميع هذه الفعاليات لا تعدو أن تُختصر في حفلَي افتتاحها واختتامها، أمّا بقية الأنشطة فهي روتينية، فولكلورية غالباً، يعسر أن تجذب جمهوراً ثقافيا حقيقياً، إلّا في ما ندر.

مثلاً، يجري تنظيم معرض كتاب دوري بين مدن عدّة، مثل باجة وبنزرت وصفاقس، غير أن هذه المعارض تقدّم كل سنة نفس البضاعة وتأتي بفعاليات معظمها من باب التشجيع على القراءة. مرّةً أخرى، قد تكون الفكرة طيّبة، لكن تجسيدها يحكمه الكثير من الارتجال والحد الأدنى من البحث، إذ إن هذه المعارض والفعاليات لن تقدر على تحريك بركة الثقافة ما لم تتحوّل إلى نقاط جذب، تدفع متابعاً للثقافة للتنقّل من تونس العاصمة إلى مدينة داخلية لحضور ندوة أو اقتناء كتاب لا يجده في مكتبات العاصمة.

معيار نجاح تظاهرات كهذه هو أن تتحوّل إلى حدث في تونس برمّتها، وهذا لا يتحقق إلى يومنا، خصوصاً أن المناطق التي هُمّشت ثقافياً لعقود يصعب أن تُفرز من الداخل، فجأةً، شريحة من المواطنين تتابع الحياة الثقافية.

"مدينة الثقافة" استحدث أيضاً في تشرين الأول/ أكتوبر الماضي "معرض الكتاب التونسي". بدت كل الظروف مهيّأة لتنفيذ شعار مرفوع منذ سنوات؛ "دعم الكتاب التونسي": معرض في قلب العاصمة، إعفاء المنتج من تنافسية دور نشر عربية وعالمية قلّما استطاع الخروج منها سالماً. رغم كل ذلك، كان الإقبال ضعيفاً للغاية. ربما أتاح المعرض لزائره أن يرى مشهد الإنتاج التونسي في صورة عامة شاملة، ولكنه لم يجد فيه الكثير من الجديد، كأن المعرض أتى على غفلة من الناشرين.

من زاوية "مدينة الثقافة"، وهي في عامها الأول، نحن نقف على الكثير من عناصر المشهد في تونس، فكأنها جاءت لتختزلها جميعاً وتضعها داخل برواز واحد. أينما التفتنا، سنجد شعارات مرفوعة، توازيها في الغالب تنفيذات ارتجالية أو ديكورية، ومن وراء كل ذلك تبدو ملامح عقلية غنائمية لعلها المحرّك الأساسي في الجزء الظاهر من الثقافة التونسية منذ عقود بعيدة.

المساهمون