الثأر يحصد أرواح أهل الصعيد

15 أكتوبر 2016
غداة اشتباك قبلي خلّف 23 قتيلاً (أحمد المغربي/فرانس برس)
+ الخط -

ما زالت نار الثأر تستعرّ في صعيد مصر، ولعلّ آخر الحوادث المرتبطة هي ما شهدته قرية كوم هتيم التابعة لمركز أبوتشت في محافظة قنا، بين عائلتَين الأربعاء. والحادثة التي استخدمت فيها كلّ أنواع الأسلحة النارية، أدّت إلى مصرع شخص وإصابة اثنَين، أحدهما في حالة حرجة. وقد وصل الأمر بإحدى العائلتَين إلى حجز عدد من التلاميذ في المدارس كرهائن، فيما لم تفلح أجهزة الأمن في إنقاذ الموقف. لكنّ عمد القرى المجاورة وشيوخها هم من فعلوا، بينما فشلت سيارات الإسعاف في نقل المصابين تحت وابل الرصاص الحيّ في القرية. وهو ما دفع بالبعض إلى الفرار في اتجاه القرى المجاورة.

يكشف تجدّد الحوادث الثأرية في الصعيد، عن انتشار أنواع مختلفة من الأسلحة النارية، بحسب ما أفادت تقارير أمنية، بعضها لا يتوفّر عادة إلا في ساحات القتال. وتلك الأسلحة تباع علناً في البيوت والشوارع والمقاهي وعلى الأرصفة، فيما يختلف الثمن بحسب النوع. فيصل ثمن المسدس مثلاً إلى ألفَي جنيه مصري (225 دولاراً أميركياً)، فيما يتراوح سعر الطبنجة الألماني ما بين خمسة وسبعة آلاف جنيه (565 - 790 دولاراً)، والآلي بين 10 و15 ألف جنيه (1125 - 1690 دولاراً). أمّا الآلي الإسرائيلي فثمنه 10 آلاف جنيه (1125 دولاراً)، والطبنجة الإسباني 13 ألفاً (1465 دولاراً)، والآلي الروسي 28 ألفاً (3155 دولاراً)، والرشاش 60 ألفاً (6760 دولاراً)، والبندقية الأميركية 24 ألفاً (2700 دولار)، والطبنجة المحلية 11 ألفاً (1240 دولاراً)، ومسدّس الصوت 2500 جنيه (280 دولاراً). من جهته، يصل الكلاشنيكوف الأكثر شهرة والأوسع انتشاراً بين أهالي الصعيد، إلى أكثر من مائة ألف جنيه (11260 دولاراً)، والجرينوف 150 ألفاً (1690 دولاراً). ويعدّ قاذف "آر بي جي" الأغلى ثمناً، إذ يبدأ من 180 ألف جنيه (20 ألفاً و270 دولاراً) ويصل إلى 240 ألفاً (27 ألف دولار). ولأنّ الأخير من الأسلحة الثقيلة ويحتاج إلى عربة تحمله، يبقى رواجه محدوداً.

واقتناء السلاح في الصعيد، إرث وعادة لا بدّ من أن يتبنّاها الجميع. وقد ازدادت وتيرة شراء الأسلحة في الصعيد خلال السنوات الثلاث الأخيرة، بسبب اتساع دوائر الصراع بين العائلات. تجدر الإشارة إلى أنّ ثمّة طريقتَين لتهريب الأسلحة إلى الصعيد، الأولى عبر الممرات والدروب الصحراوية من السودان وليبيا إلى عدد من القرى، والثانية عبر شركات الشحن الخاصة بالأثاث أو صنادل النيل التي ترسو في قرى معينة.

والسلاح في صعيد مصر يعدّ الصديق الأوّل الذي لا يفارق صاحبه، أمّا مهارة حمله فهي أوّل ما يتعلمه الأطفال مهما كانت الحال الاقتصادية والمعيشية. السلاح أولويّة تسبق أيّ شيء آخر، وقد يضطر الرجل إلى بيع جاموسته التي تدرّ له الحليب أو مجوهرات زوجته لشراء السلاح. ويستخدمه أهل الصعيد في كثير من تفاصيل حياتهم اليومية، من قبيل تصفية الخصوم والاحتفال بالأفراح، والتفاخر بين العائلات وفرض الهيبة ومواجهة "المطاريد" (المطلوبين قضائياً) وحيوانات الجبال.

إلى ذلك، كشفت أجهزة رقابية عن تورّط قوات الأمن في تجارة الأسلحة، خصوصاً تلك المضبوطة من الأهالي، لا سيما البنادق الآلية والذخيرة. فتباع لأشخاص معيّنين في السوق مقابل مبالغ مالية كبيرة. وبيّنت تلك التقارير أنّ أكثر من 25 في المائة من الأسلحة المضبوطة بحوزة المواطنين هي في الأصل أسلحة مهرّبة، وأنّ حركة تجارة الأسلحة في مصر تصل إلى 30 مليار جنيه (نحو ثلاثة مليارات و400 مليون دولار)، من جرّاء بيع ما بين 10 و15 مليون قطعة سلاح. أمّا الأسلحة المضبوطة فلا تتجاوز نسبتها 20 في المائة على أفضل تقدير. كذلك تحدّثت تلك التقارير عن انتشار ورش لتصنيع الأسلحة البدائية في كثير من محافظات الصعيد، خصوصاً في المنيا وأسيوط وسوهاج والأقصر. وتلك الأسلحة هي المسدس والكباس والفرد الخرطوش، وهي ليست سوى مسدسات بدائية تصنع في المخارط.




والأخذ بالثأر الذي تستخدم فيه تلك الأسلحة، يعدّ من أبرز العادات المرتبطة بعائلات الصعيد وقبائله، ولكلّ واحدة من تلك العائلات حكاياتها عنه. وعلى الرغم من عشرات المحاولات لوأد فتنة الثأر عبر عقد جلسات صلح، إلا أنّ هذه العادة ما زالت قائمة، وقد ارتفعت وتيرتها بطريقة ملحوظة بعد ثورة 25 يناير (2011). وبلغ الأمر الأخذ بالثأر في المصالح الحكومية وداخل قاعات المحاكم وفي حرم الجامعات والمدارس وداخل القطارات، نظراً إلى حالة الانفلات الأمني في البلاد مذ ذلك الحين. وهو الأمر الذي حصد آلاف الأرواح البريئة على مدى السنوات الماضية، فيما تعزّز توارث الأجيال المتعاقبة هذه العادة التي لا تتحدث إلا بلهجة الدم. من لا يأخذه بثأره يوصم بالعار.

في سياق متصل، تؤدّي المرأة الصعيدية دوراً مهماً في ذلك، إذ تهب حياتها بالكامل لتثأر للأب أو الزوج أو الأخ أو الابن، وترفض أيّ تهرب من "الدم" وتدفع ابنها إلى الثأر. وثمّة نساء يعمدن إلى حلق شعر رؤوسهنّ بالكامل، فيما يلبسن أحياناً "عمّة الرجل"، في إشارة إلى دورهنّ في الأخذ بثأرهنّ. والمرأة لا تقف عند حدّ التحريض فحسب، بل تحمل السلاح في بعض الأحيان، فهي في الأساس لها دورها في الصعيد في تنظيف السلاح وفكه وتركيبه.

إلى ذلك، كانت تقارير أمنية واجتماعية قد لفتت إلى صعوبة حلّ مشكلة الثأر في الصعيد، مؤكدة على أنّ قرى كثيرة تعاني الفقر وقلة الثقافة وانعدام الوازع الديني، الأمر الذي جعل قلوباً كثيرة "قاسية" لا تعرف الرحمة في قتل البشر. وقد حذّرت تلك التقارير من خطورة التمادي في عمليات الثأر تلك. وبيّنت أنّ جرائم الثأر تزداد خلال يوليو/ تموز وأغسطس/ آب بنسبة 35 في المائة بسبب ارتفاع أعواد الذرة والقصب في الحقول، وبنسبة 26 في المائة في إبريل/ نيسان مع بداية موسم الحصاد، لأنّ الفلاحين يبيعون المحاصيل ويستطيعون شراء الأسلحة الأوتوماتيكية بثمنها، وتوكيل المحامين للدفاع عن أبنائهم بعد ارتكاب الجرائم. وشدّدت تلك التقارير على أنّ مسألة الثأر في تلك المناطق معقدة جداً، إذ يعدّ بعض من تخلّى عن ردّ جرائم القتل بالثأر، منبوذاً وغير مقبول في النسيج الاجتماعي لتلك القبائل. لذا اضطرت عائلات عدّة إلى ترك مناطقها وتغيير مقرات سكنها، فقط لأنّها مطالبة بثأر لا تريد تنفيذه.

وقد حمّلت تلك التقارير غياب القانون وقوة الدولة، انتشار الثأر. فرجال الأمن المشرفون على مناطق الانتشار، يدّعون أنّهم سوف يقضون عليه. أمّا المحاكم الوضعية في مصر، فلا تأخذ بمبدأ من قتل يُقتل، لكنّها تحكم بالأشغال المؤبّدة بعد فترة طويلة. ونادراً ما تحكم بالإعدام لعدم توفّر الأدلة، وهو ما يجعل منها "أداة لا قيمة لها في تحقيق معنى العدالة أو القصاص". ومن شأن ذلك زيادة توتّر الوضع ومعدّل هذا النوع من الجرائم، ليتحوّل إلى ثقافة راسخة في المجتمعات التي تسكن منطقة الصعيد المصري عموماً.

دلالات