التلّ المخضرّ

02 يوليو 2019
كان فلاحاً عصامياً مبتكراً (أشرف الشاذلي/ فرانس برس)
+ الخط -
عاش على التلّ الرملي بالقرب من قريتنا رجل غريب الأطوار يلقبونه بـ"الدَّقَر". ويعود الاسم لأخطر أنواع الأفاعي. يحدثون عن عصاميته، وقوته البدنية التي لا تضاهى، وأنّه لم يرث أرضاً زراعية على النيل مثلهم، لكنّه زرع أفضل منهم، ومارس كلّ الأعمال الشاقّة من حفر للآبار وقطع للشجر مستخدماً تقنيات تخصّه وحده، ابتدعها وأجادها ليدهش كلّ من يقف عليها.

كنا نمارس شقاوة الأطفال فندخل إلى حقله في غيابه، موقنين بعدم استطاعة زوجته المبتورة الساق اللحاق بنا. نعاين بئره ذات الدعامات الخشبية الهندسية، والدرج الحلزوني البديع، وحقله ذا التروس العديدة، وأشجاره الظليلة، وخضرته اليانعة في حقل من رمل، إلّا من بعض الطين الأسود عند سيقان الشجيرات والنباتات الصغيرة، يجلبه من جروف النيل، والجزر البعيدة على ظهر بعيره أو حماره، وله حكمته في تبادل استخدامهما.

استوقفتني تلك التروس التي بناها بدقة كبيرة، تحبس مياه الأمطار قبل أن تلتحق بالمجاري الصغيرة لتتخذ طريقها إلى النيل. من تلك المياه ما ينحدر عبر مصرف صغير إلى البئر، ومنها ما يتبقى في منخفضات متفاوتة الأحجام تحفّها الأشجار الشوكية لعدة شهور، يسميها "المحاقن"، ولم أدرك إلّا بعد قرابة الأربعين عاماً دورها في حقن المياه في الحوض الجوفي، والمطامير المليئة بالصخور الصغيرة حول الأشجار وأحواض الزرع، لتحافظ على رطوبة الأرض.

مات الرجل مخلفاً وراءه حقلاً أخضر وكثيراً من الأسئلة، فلماذا لم يزرع أرضاً خصبة، أو أياً من الوديان من حوله؟ ومن الذي علّمه إبداع أدواته وتقنياته الدقيقة من الموادّ المحلية؟ ولماذا نُصرّ نحن على استجلاب خبراء لا يعرفون شيئاً عن إرث المحليين ليعلمونا ما مارسه من قبل الأسلاف؟

ذات مرة، وجدت أحدهم يحدّث الناس عن طاقة تخزين التربة، ومخاطر التبخر، وموت الأرض، وهم يتلفتون، بينما مسؤول المشروع الزراعي الحكومي يتحاشى نظراتهم، ويحاول أن يهمس ليوقف سيل حديث الخبير الذي لم يتوقف، كأنّه يخشى أن ينسى شيئاً مما حفظ. وما إن سكت حتى وقف أكبر المزارعين سناً بلا استئذان ليشكر الخبير الذي ما خَبِروا من قوله شيئاً، ثم توجّه إلى الآخرين ليقول إنّ مشكلتهم هي فقر التربة، وانحسار غطائها النباتي (واطاتنا بقت فقرانة وعريانة)، ولخص رؤيته في العودة إلى نظام السدود. وهكذا حُرِّرت "روشتة" العلاج.




حواجز المياه (التروس) أكثر فعالية في المنحدرات الخفيفة، ويمكن إقامة سلسلة منها جنباً إلى جنب، لكنّها تتطلب جهداً كبيراً لن يشقَّ عليهم إن تعاونوا عليه إدارة ومزارعين. كذلك، فإنّ عليهم زراعة الأشجار والشجيرات حول التروس لتثبيت التربة وإعادة عناصر الحياة إليها، ما داموا عازمين على استصلاح الأرض التي دفنتها الرمال مثلما فعل "ود حسوب" وهذا هو اسم "الدقر".

*متخصص في شؤون البيئة
المساهمون