التلميذة الأجمل

02 سبتمبر 2014
لم تكن أياماً عادية ولا بلاداً عادية (Getty)
+ الخط -

لم تكن أياماً عادية ولا بلاداً عادية. جلست القرفصاء على الأرض إلى جانب أبنائها الثلاثة. كانت تتولّى تجليد الكتب المدرسية بنفسها، وهم يتفرّجون عليها، ويعاونونها بترتيبها فوق بعضها بعضاً. حرصت على العناية بالكتب جيداً، هي التي لم تذهب يوماً إلى المدرسة ولم تعرف هذا الشعور لأسباب لا علاقة لها بها، بل بعادات اجتماعية تافهة ومؤذية.

غاب زوجها يبحث عن قوت الأسرة في الخليج، وسلّمها مسؤولية العائلة الصغيرة وحدها، في زمن حرب. كانت تتولّى إدارة البيت بدقة إبرة ميزان الذهب، وشؤون الأطفال الثلاثة، وتعليمهم، هي التي بالكاد تحسن رسم اسمها بالقلم.

كان هذا الأمر يحرجها، ولا يزال. ويتسبّب بإرباك دائم لها وبشعور بالقهر لم يتمكن أبناؤها يوماً من الفكاك منه.

لم تخف من مسؤولية يوماً. على العكس، كانت دوماً مشاكسة وقوية بحق. ولم يكن يؤرقها شيء بقدر تعليم الثلاثة الذين خرجت بهم إلى الحياة. وقد حملت هذا القلق في نفسها لسببين: خسارتها الشخصية، وتقديرها لما يعنيه التعليم من فرصة للناس العاديين.

في ليالي القصف، خلال الحرب، وفي ليالي السلم، على ضوء الشمعة، وعند عودة التيار الكهربائي، في أمسيات الرعب والسكينة، لم تتعب يوماً ولم ينقطع نَفَسها من وعظهم حول أهمية التعليم. وعندما ترجع الحياة إلى عاديتها تسهر معهم، كمعظم الأمهات، إلى أن ينتهوا من دروسهم. لا تذهب إلى النوم إلا بعد نومهم. وتفيق في الصباح باكراً لتوقظهم من أجل إنهاء فروض تأخروا عليها.

تظلّ تحثّهم على المثابرة وتقدير نعمة التعليم التي لم تحصل عليها يوماً لذنب لم ترتكبه، مع أنها كانت تستحقه بشدة. وكانت تتخلّى دائماً عن حقوقها في التمتع بالحياة، كأي امرأة، كي تشتري لهم القرطاسية أو تسدّد بدل الساعات الإضافية للأساتذة. كان تعليمهم المعركة التي نذرت نفسها لأجلها.

يوم فاز بكرها بالثانوية العامة، حملت الشهادة المغلّفة بالجلد النبيذي وعانقتها. نظرت إلى اسمه محفوراً عليها بالأحرف المذهّبة وابتسمت. لقد حقّقت إنجازها الخاص الأول. كانت هي، دون أي أحد آخر، مَن يستحق الوقوف على المنصّة وتسلّم الشهادة.

في تلك اللحظة بالذات، بدا أنها عادت طفلة صغيرة. صارت تلميذة بضفيرتين وزيّ مدرسي ملوّن لم تلبسه يوماً. عادت تتناول "سندويش" الجبن من يد والدتها في الصباح لتضعه في الحقيبة وتنتظر باص المدرسة يقلّها إلى العالم الذي كان أكثر ما تحب.

أمسكت الشهادة برفق متناهٍ ولم تتركها من يدها. مرّرت أصابعها فوق الاسم المحفور بعناية ثم ضمّت الشهادة إلى صدرها. ضمتها بشدّة.

في تلك اللحظة بالذات كانت أجمل تلميذة على الأرض.
المساهمون