التقشُّف يطرق باب السعودية

05 يونيو 2020
غلاء الأسعار يصاحبه انخفاض الرواتب في السعودية (Getty)
+ الخط -
لم تترك صدمة كورونا وانهيار أسعار النفط المزدوجة للسعودية سوى خيار التمسُّك بالتقشُّف غير المسبوق وشدّ الأحزمة، فقد قرَّرت المملكة رفع ضريبة القيمة المضافة إلى ثلاثة أضعاف من 5 في المائة إلى 15 في المائة بدءًا من شهر يوليو/تموز 2020، وتعليق بدل غلاء المعيشة للعاملين في القطاع العام بدءًا من شهر يونيو/حزيران 2020، بالإضافة إلى تأجيل إتمام إنجاز بعض المشاريع التي تكسو "رؤية 2030".
وهذه الخطوات جاءت انصياعًا للخطة التقشّفية للحكومة التي ستوفر مبلغًا يصل إلى 100 مليار ريال سعودي أي ما يعادل 26.66 مليار دولار، حسب وزير المالية محمد الجدعان، ومع زوال العطايا السخية لشراء الرضا الشعبي انقلب اهتمام الشعب من تفاؤل كبير برؤية 2030 إلى تشاؤم أكبر من نكسة 2020.
وجاءت تلك الإجراءات التقشّفية الجريئة والحاسمة لتضع طموحات المواطنين السعوديين إلى اقتصاد متنوِّع ومتقدِّم في مهب الريح، ولتكشف عن فشل حكومتهم في وضع الاقتصاد السعودي في المسار الصحيح الذي يحصِّن المملكة من الضربات الموجعة للأزمات المفاجئة والأحداث المباغتة، وبسبب سعر خام برنت لم يتعدَّ حتى يوم الخميس 40 دولارًا تبيع المملكة نفطها بأقل من نصف ما تحتاجه لموازنة ميزانيتها التي تتطلَّب سعرًا لا يقل عن 80 دولارًا، وهذا ما سيضمن استمرار تصاعد وتيرة التقشُّف.
ومن المرجَّح أن يؤدِّي رفع ضريبة القيمة المضافة في الوقت الذي تواجه فيه العديد من الأسر مشاكل فقدان الوظائف وتخفيضات الرواتب إلى تراجع الاستهلاك وحتى العزوف عنه وارتفاع تكاليف الإنتاج وتفاقم الضغط على الشركات وإلحاق أضرار جسيمة بالقطاع الخاص ككل.
حملة التقشُّف التي أطلقتها الحكومة سترتدّ على تنافسية المملكة لا محالة، حيث تتمتَّع دول خليجية أخرى كالكويت والإمارات بهامش كبير للمنافسة والمناورة في هذا المجال نتيجة لعدم رفع ضريبة القيمة المضافة عن نسبة 5 بالمائة، وهذا ما يؤهلها لامتلاك ميزة تنافسية يحسب لها المستثمرون حسابًا كبيرًا، وبالرغم من امتلاك المملكة لاحتياطي كبير من العملات الأجنبية مقارنة بجاراتها والذي يفوق 470 مليار دولار.
إلاّ أنّ مبلغ 300 مليار دولار ليس ببعيد لاسيَّما وان استمرّ انخفاض أسعار النفط حتى سنة 2021 خصوصًا وأنّ ذلك الاحتياطي فقد قرابة 24 مليار دولار في شهر مارس/آذار وهو أكبر انخفاض على الإطلاق في تاريخ البلاد.
كما انخفضت الاحتياطات الأجنبية للسعودية بشكل حاد في أبريل/ نيسان للشهر الثاني على التوالي حيث فقد أكثر من 21 مليار دولار مع تحويل المملكة مليارات الدولارات لدعم استثمارات صندوق الثروة السيادي في الخارج، وهو ما يعكس من ناحية أخرى مدى ضئالة الموارد المالية التي قد توفِّرها الإجراءات التقشّفية مقارنة بالمبالغ الطائلة التي تخسرها المملكة شهريًا جرّاء الصدمة المزدوجة لجائحة كورونا وانهيار أسعار النفط.
وكأنّ المملكة تلعب لعبة مشابهة للعبة المجموع الصفري والتي يطلق عليها بالإنكليزية "Zero-Sum Game" والمشهورة في نظرية الألعاب "Game Theory" والتي تفيد بتعادل مكاسب جهة مع خسائر جهة أخرى.
فقد أعلنت المملكة عن حزمة تحفيز بقيمة 70 مليار ريال أي ما يقارب 18.7 مليار دولار لمساندة القطاع الخاص وكشفت النقاب عن حزمة إضافية أخرى بقيمة 50 مليار ريال أي ما يقارب 13.3 مليار دولار لدعم الشركات الصغيرة والمتوسطة والبنوك والمؤسسات المالية، ولكن كان لها مآرب أخرى اتّضحت للعلن عندما ضاعفت ضريبة القيمة المضافة ثلاث مرات، وأوقفت بدل غلاء المعيشة للموظفين الحكوميين، وما هذا إلاّ غيض من فيض من أمثلة كثيرة عن الإجراءات التقشّفية التي ستنهال على المواطنين السعوديين إن طال أمد الأزمة المزدوجة أكثر مما ينبغي.
ستتسبَّب الإجراءات التقشّفية بإثقال كاهل المواطنين بالأعباء التي ستنتج عن ارتفاع الإنفاق على ضروريات العيش كالغذاء والنقل والتعليم والصحة وفواتير المياه والكهرباء لا سيَّما أنّ القطاع الحكومي يُشغِّل أكثر من ثلثي المواطنين السعوديين.
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا بقوة هو: لماذا تستمرّ الحكومة في تحميل جيب المواطن السعودي ذنب الصدمة المزدوجة؟ بالرغم من أنّها على يقين بأنّ المبلغ المُقدَّر بـ 26.66 مليار دولار والذي ستضعه سياسة التقشّف الجديدة على الطاولة لن يكفي لسدّ العجز المتنامي في الميزانية والذي قُدِّر بـ34 مليار ريال أي ما يعادل 9 مليارات دولار في الربع الأول فقط من عام 2020 نتيجة لانخفاض إجمالي الإيرادات بـ22 بالمائة في الربع الأول من السنة الجارية مقارنة بالفترة ذاتها من السنة الماضية.
وقد قدَّرت الحكومة السعودية أنّ العجز في الميزانية سيبلغ 187 مليار ريال سنة 2020 أي ما يقارب 49.86 مليار دولار.
ويتزامن هذا التقشّف مع صعود صاروخي في الاستدانة فقد خطَّطت المملكة لاستدانة ما يقارب 59 مليار دولار، وهذا ما سيقفز بالدين العام إلى 240 مليار دولار، وهو رقم يضاء له الضوء الأحمر لخطورته.
يكون التقشُّف مبرَّرًا عندما تحاول الحكومة قدر استطاعتها توجيه الأموال التي تحوزها إلى أفضل استخداماتها بشكل أكفأ وباتِّباع مبدأ الأولويات، لكن ليس هناك أي مبرِّر منطقي وعقلاني لشدّ أحزمة التقشّف عندما يعلن صندوق الاستثمارات العامة، والذي يمثل صندوق الثروة السيادية للسعودية، عن عزمه شراء نادي نيوكاسل يونايتد الإنكليزي لكرة القدم بمبلغ من المحتمل جدّا أن يفوق 372 مليون دولار.
وكذا قيام الصندوق بالاستحواذ على 8.2 في المائة (بقيمة 775 مليون دولار) من "كرنفال" أكبر مشغِّل رحلات بحرية في العالم والذي يتَّخذ فلوريدا الأميركية مقرًا له، إضافة إلى استحواذ الصندوق على حصة تُقدَّر بـ5.7 في المائة أو ما يعادل نصف مليار دولار في شركة الترفيه الأميركية "Live Nation Entertainment" المتخصِّصة في تنظيم الحفلات الموسيقية ومناسبات أخرى.
ومن هنا لابدّ أن نتساءل: أليس المواطن السعودي والمؤسسات سواءً الخاصة أو العامة أحقّ بهذه الأموال التي يتمّ استثمارها في أصول غربية متعثِّرة لم تجد غير هذا الصندوق السعودي ليكون أكثر سخاءً معها ويوقفها على أرجلها مرة أخرى.
خلاصة القول إنّه في خضمّ الأزمة التي تتخبَّط فيها المملكة ينبغي على الإجراءات التقشّفية أن تنطلق بعيدًا عن جيب المواطن السعودي لا سيَّما البسيط والذي بدأ يحنّ إلى العقد الذهبي الذي امتلأت فيه الخزينة السعودية وانعكس ذلك على رفاهيته.
فهناك طرق أخرى ذات أولوية قصوى يمكن أن تتقشّف من خلالها المملكة كالتوقُّف عن دفع الجزية مقابل عدم التعرُّض الأميركي للمملكة، وليس كما يسميه ترامب الحماية الأميركية، والامتناع عن دفع عجلة الاقتصاد الأميركي من خلال الاستثمار في البنية التحتية الأميركية، شراء سندات الخزانة الأميركية وشراء الأسلحة وتوفير فرص شغل للأميركيين، فهذا لا يعود بالفائدة إطلاقًا على المواطن السعودي، والابتعاد قدر الإمكان عن خوض الحروب بالوكالة والدخول في الصراعات والخلافات الدولية.
والخوف كل الخوف أن تكون الضريبة على القيمة المضافة مجرَّد نقطة بداية في مشوار تقشّفي طويل تتعوَّد الحكومة خلاله على حرق جيوب الشعب بولاعة الضرائب حيث يجب التنبيه إلى أنّ الحكومة التي تتَّخذ من الضرائب والرسوم انطلاقة أولى في خطّتها التقشّفية، التي قد تستمرّ لعدّة سنوات وحتى لعقود، ستكون أكثر عرضة للانهيار وهنا يستوقفني قول ابن خلدون في مقدمته الشهيرة في القرن الرابع عشر الميلادي "عندما تكثر الجباية تشرف الدولة على النهاية".
دلالات
المساهمون