18 ديسمبر 2020
التطرف الديني... تركة البشير ومعضلة التحول الديمقراطي في السودان
بعد أن أفلحت الثورة السودانية، التي انطلقت في ديسمبر/ كانون الأول 2018، في إطاحة البشير من السلطة، عادت التيارات السلفية بقوة إلى المشهد السياسي، وذلك تحديداً بعد أن أطلق دعاة وأئمة سودانيون تحذيرات من وصول الحركات والأحزاب المحسوبة على التيار الليبرالي إلى الحكم، ملوّحين بالخروج في مسيرات مليونية إلى مقر اعتصام المتظاهرين أمام القيادة العامة للجيش، للتشديد على التمسّك بالشريعة الإسلامية والإسلام كهوية للدولة السودانية، وذلك كما ظهر في مقطع فيديو متداول على وسائط التواصل الاجتماعي.
الحراك الإسلامي المضاد لدعاة العلمانية، بدأ بالتصاعد بسبب منشور صدر من تجمع المهنيين السودانيين عن إقامة قداس للمسيحيين في مقر الاعتصام أمام القيادة العامة.. على إثره، صعّد التيار السلفي من خطابه للمجلس العسكري الانتقالي، محذّراً من مغبة وصول التيار الليبرالي إلى السلطة، وطالب بإقصائهم من المشهد السياسي، تحديداً خلال الفترة الانتقالية. لذلك فإن تصاعد موجة الاستقطاب الديني ضاعف من المخاوف المتعلقة بشأن عملية التحول الديمقراطي والتي يترقبها الشارع السوداني بفارغ الصبر.
شهد السودان عدداً من الأحداث المتفرّقة، والتي ربما طواها النسيان، لكنها حملت كافة سمات العمليات الإرهابية المرتبطة بالتطرف الديني. أولى حوادث العنف شهدتها مدينة (ود مدني) بين مجموعة من التكفيريين تتبع للشيخ محمد عبد الكريم والأجهزة الأمنية، وذلك في عام 1993، تلتها حادثة عبد الرحمن الخليفي، التي حصدت أرواح 27 مواطناً في مسجد الجرافة بضاحية (أدرمان) في عام 1994، ثم حادثة التكفيري عباس الباقر في مسجد أبو بكر الصديق في عام 2000، وخلية السلمة والتي اغتالت الدبلوماسي الأميركي جون مايكل جرانفيل وسائقه الخاص بالعاصمة الخرطوم في عام 2008، ثم خلية الدندر والتي كانت تخطط لعمليات عسكرية ضد القوات الفرنسية في مالي. كذلك نشطت في السنوات الأخيرة العديد من الخلايا الإرهابية التي ساهمت في تجنيد وتفويج عدد مقدر من الشباب لتنظيم الدولة الإسلامية في العراق وسورية.
استطاع البشير أن يتعامل مع ملف الإرهاب بحنكة عالية، فقد امتلك نظامه قصب السبق في إتاحة الأجواء لتنامي التطرف الديني، خاصة عندما قام بتدجين الحرب الأهلية في الجنوب وتحويلها إلى حرب دينية على الصليبية والعلمانية.
كذلك، فتحت مظلة المؤتمر الشعبي العربي والإسلامي، والذي تأسّس في الخرطوم في عام 1991، إذ فتح السودان أبوابه للعديد من الجماعات الإسلامية المتشدّدة، وعلى رأسها أسامة بن لادن، الزعيم الروحي لتنظيم القاعدة السابق.
هذا التوجه جعل إدارة الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلنتون تتخذ قرارها بوضع السودان على لائحة الدول الراعية للإرهاب، الأمر الذي فاقم من العزلة الاقتصادية لنظام البشير. كذلك قامت الاستخبارات السودانية، برئاسة القيادي البارز في الحركة الإسلامية، نافع علي نافع، بتمويل وتنفيذ عملية الاغتيال الفاشلة والتي تعرض لها الرئيس المصري المخلوع محمد حسني مبارك في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا، رداً على تشديد قبضته الأمنية على جماعة الإخوان المسلمين، وحظر نشاطها السياسي في مصر.
بهذا الرصيد المتخم، تمكّن نظام البشير من تأسيس شبكة علاقات واسعة مع الجماعات المتطرفة، مستغلّاً موقع السودان الاستراتيجي المجاور لسبع دول، الأمر الذي مكّن الحركة الإسلامية من التأثير على الاستقرار السياسي في المنطقة الإقليمية.
كذلك أسست الحركة الإسلامية جامعة أفريقيا العالمية في الخرطوم، في خطوة سعى من خلالها التنظيم لأسلمة القارة الأفريقية، إذ برزت العديد من التقارير التي تربط ما بين الحكومة السودانية والجماعات الإسلامية المتشددة كحركة جماعة الجهاد في جنوب مصر، وتحالف السيليكا في أفريقيا الوسطى، إضافة إلى جماعة بوكو حرام في نيجيريا، وحركة الشباب الإسلامي في الصومال.
بدأت بوادر التعاون ما بين نظام البشير والاستخبارات العالمية، تحديداً في عام 1994، وذلك عندما قام النظام بتسليم "إليتش تيمنا بلينين"، الملقب بـ"كارلوس"، للاستخبارات الفرنسية في مقابل تحسين علاقات السودان الدبلوماسية مع دول الاتحاد الأوروبي والتي كانت في غاية السوء، نسبة لتوجهات النظام الإسلامية المعادية للغرب، وهو ما أدّى إلى تعليق طلب عضويته لمنظمة التجارة العالمية، وحرمانه من المكاسب الاقتصادية المترتبة عليها.
كذلك عمل النظام السوداني على دفع علاقته مع الولايات المتحدة، وهو الأمر الذي تمّ السير فيه بجدية في نهاية التسعينيات، إذ تبادل الجانبان جملة من الزيارات السرية والمعلنة، المتعلقة بملف الإرهاب في منطقة القرن الأفريقي.
لكن التطور الأبرز في العلاقات الثنائية حدث خلال رعاية أميركا، ضمن دول أخرى، لمفاوضات السلام التي جرت في ضاحية نيفاشا بكينيا، والتي انتهت بإقرار حقّ تقرير المصير للجنوب في وثيقة اتفاق السلام الشامل، والتي جرى التوقيع عليها في عام 2005، والتي مهّدت الطريق لانفصال جنوب السودان في عام 2011.
برع نظام البشير في استئناس الجماعات الإسلامية، واستمالتها لصفه بالعزف على وتر الشريعة الإسلامية، والذي تمثل بصورة واضحة في قانوني الأحوال الشخصية والنظام العام. كما أن نظام البشير فتح المنابر لهذه الجماعات بلا حسيب أو رقيب، للتبشير بمذاهب تدعو
إلى التطرف الديني والإرهاب.
بالمقابل، ساهمت هذه الجماعات في إضفاء الشرعية الدينية على نظامه في تحالف قوامه الاحتماء من الديمقراطية والحكم المدني العلماني. لذلك، فقد تبدّت معالم انهيار نظام البشير مع تهاوي السلطة الدينية الداعمة له، والتي تعرضت لحملة انتقادات شعبية غير مسبوقة. ومع تصدر تجمع المهنيين السودانيين وائتلاف قوى الحرية والتغيير، والذي يضم قوى سياسية علمانية التوجه، إضافة لالتفاف الشارع السوداني حولهما كممثل شرعي لمطالب الجماهير، تصاعد قلق الجماعات الدينية، ثم تحول القلق لغضب تجاه الخطاب الجماهيري المتزايد، والذي يصم مشروع الدولة الدينية في السودان بالفشل.
جدلية العلاقة بين الدين والدولة تشكّل إحدى المعضلات الرئيسية التي تواجه السودان منذ الاستقلال، وقد ساهم الاستقطاب الديني والإثني، تحديداً في ما يتعلق بهوية الدولة السودانية، في جرّ البلاد لدوامة من الحروب الأهلية، والتي راح ضحيتها الملايين من السودانيين. لذلك، فبروز التطرف الديني في المشهد السياسي يتطلب - بالضرورة - ألّا تعيد القوى السياسية، الطامحة للتغيير، إنتاج العجلة من جديد، وأن تبتعد عن سياسة حرق المراحل، والقفز الى النتائج، وأن تؤكد على وجوب التوافق مع التيارات الإسلامية على الحقوق الأساسية المستحقّة في السودان الجديد، والمتمثلة في الحريّة والمواطنة المتساوية.
لذلك، على القوى السياسية أن تتبنّى خطاباً يتسم بقدر من المرونة والاتزان، بحيث يسمح بتمثيل الحد المعقول من مطالب الجماعات الإسلامية في عملية التحول الديمقراطي، مع عدم المساومة في أهم مكتسبات الثورة السودانية، المتمثلة في الحرية والسلام والعدالة.
بالمقابل، ساهمت هذه الجماعات في إضفاء الشرعية الدينية على نظامه في تحالف قوامه الاحتماء من الديمقراطية والحكم المدني العلماني. لذلك، فقد تبدّت معالم انهيار نظام البشير مع تهاوي السلطة الدينية الداعمة له، والتي تعرضت لحملة انتقادات شعبية غير مسبوقة. ومع تصدر تجمع المهنيين السودانيين وائتلاف قوى الحرية والتغيير، والذي يضم قوى سياسية علمانية التوجه، إضافة لالتفاف الشارع السوداني حولهما كممثل شرعي لمطالب الجماهير، تصاعد قلق الجماعات الدينية، ثم تحول القلق لغضب تجاه الخطاب الجماهيري المتزايد، والذي يصم مشروع الدولة الدينية في السودان بالفشل.
جدلية العلاقة بين الدين والدولة تشكّل إحدى المعضلات الرئيسية التي تواجه السودان منذ الاستقلال، وقد ساهم الاستقطاب الديني والإثني، تحديداً في ما يتعلق بهوية الدولة السودانية، في جرّ البلاد لدوامة من الحروب الأهلية، والتي راح ضحيتها الملايين من السودانيين. لذلك، فبروز التطرف الديني في المشهد السياسي يتطلب - بالضرورة - ألّا تعيد القوى السياسية، الطامحة للتغيير، إنتاج العجلة من جديد، وأن تبتعد عن سياسة حرق المراحل، والقفز الى النتائج، وأن تؤكد على وجوب التوافق مع التيارات الإسلامية على الحقوق الأساسية المستحقّة في السودان الجديد، والمتمثلة في الحريّة والمواطنة المتساوية.
لذلك، على القوى السياسية أن تتبنّى خطاباً يتسم بقدر من المرونة والاتزان، بحيث يسمح بتمثيل الحد المعقول من مطالب الجماعات الإسلامية في عملية التحول الديمقراطي، مع عدم المساومة في أهم مكتسبات الثورة السودانية، المتمثلة في الحرية والسلام والعدالة.