قد لا نختلف في كون الترجمة جنساً مُهيمناً يضم المجرَّد والمحسوس، وفي كونها عابرة للعلوم والمعارف والإبداعات، لأنها تَخْترقها جميعاً وتُخترَق من قِبَلها. لكن سيكون من المغامرة ادعاء وجود صلاتٍ لها واضحةٍ مع الرياضة.
ولا شك في أن الحركة جامعٌ حقيقيّ بين النشاطيْن، فالترجمة رياضة فكرية، تركز على شحذ الذهن لنقل النص في اتجاه لغة الوصول مُستهدِفة متلقّيّاً، مثلما تُترجِم معظم الرياضات ذاتَها في صقل الجسد وتمهيره لنقله أو نقل أشياء تُعَدّ امتداداً له في اتجاه هدف بعينه إمتاعاً لجمهور.
والطريف في أمر الترجمة والرياضة أن يكون الإله الشاب الخارقُ هِرْمِسُ أيقونةً للرياضيين والمترجمين معاً: فالأدوار التي أُوكلَت إليه كي يقوم بها كثيرة؛ لعلّ أبرزها أن "يكون الرَّسول الخالد للآلهة، [...و] ألا يتكلَّم أبداً من تلقاء نفسه. [...] وأن ينقل كلماتهم بكل أمانة [...] مجْبَراً على أن يكرر كلمات الآخر ويعيد قولها". لكنه بِحُكم شبابه ومرونة جسده ورشاقته وذكائه وسرعة انتقاله وخداعه اعْتُبر، في الوقت نفسه، راعيَ الرياضيين في الميادين الرياضية بنوعيها: الجيمنازيوم والاستاديوم، حتى إنه عُدَّ قديماً معبودَ الرياضيين أيضاً.
ولعل لهرمس نظيراً، في إحدى المهمات لا الصورة، في الثقافة المغربية لمرحلة ما قبل الاستعمار، فقد عرف المجتمع المغربيُّ ساعيَ البريد وعرَّفه بـ "الرَّقّاص"؛ وهو شخص كان يوصل الرسائل بين التجمعات السكنية من مدن وقرى، وبين السَّاسة داخل الوطن. اشتُهِر الرَّقاص بالعزيمة والمغامرة والتضحية بالذات وشدّة العدْو، حتى إنه ذُهِب إلى أن بعضهم كان يسبق الخيل في الوصول إلى أماكن بعينها، لمرورهم بمسالك وعرة يختصرون بها الطريق.
فإذا اعتبرنا المترجم وسيطاً يوصلُ الرسالةَ الشفهية والكتابية بأمانة، فإن ذاك ما كان يقوم به الرَّقاص الذي كان يُفترَض فيه أن يكون رياضياً شأن الإله هرمس.
ويَعلم المهتمُّون بالترجمة تدريساً وممارسة بوجود تخصص قائم بذاته هو الترجمة الرياضية؛ مثل الترجمة الطبية أو السياحية أو القانونية أو غيرها، وهو تخصّص له بيداغوجية وديداكتيك، ويحظى بإقبال متزايد في المجال الإعلامي تحديداً، اعتباراً لأهمية الرياضة في حياة البشر لأسباب صحية وترفيهية، ويؤكّد ذلك كثرة القنوات الفضائية الرياضية، التي لا تقف عند نقل بطولاتها الوطنية وبرامجها الرياضية المحلية، وإنما أصبحتْ تُفرد للمادة الأجنبية حصة من حيّزها الزمني، تتمثل في نقل مباريات بطولات أجنبية وسِيَر أبطال رياضيين واستجوابات مع بعضهم.
يقتضي كلُّ ذلك تكويناً مهنيّاً في الرياضة، وتكويناً متخصّصاً في الترجمة لنقل كل تلك المعارف والمعطيات، نظراً لارتباطهما بصناعات اقتصادية متنوعة وقوية وبأنشطة عديدة تمس الحياة اليومية لملايين البشر وآلاف الشركات والوكالات، إلخ.
ويتهيّأ لي أن مدرّب كرة القدم المشاغبَ البرتغاليَّ جوزيه مورينيو، المدرّب الحالي لفريق مانشستر يونايتد، تجسيد مثالي للعلاقة المتينة بين الترجمة والرياضة؛ فقد درَّب فرقاً أوروبية مرموقة؛ من أبرزها تشلسي الإنكليزي وريال مدريد الإسباني وإنتر ميلان الإيطالي وبورتو البرتغالي.
والمعروف أن مورينيو بدأ مَسيرَه الريَّاضي مترجماً، فقد حلَّ في نادي برشلونة رُفقةَ المدرِّب الإنكليزي بوبي روبسون، سنة 1996، قادميْن من نادي سبورتينغ، حيث استغلّ النادي الأخيرُ المعرفةَ الجيدة لمورينيو بالإنكليزية، إضافةً إلى خبرته الرياضية ليكون مساعداً للإنكليزي. ولذلك سخر منه جمهور برشلونة في المطار، في مارس سنة 2006، لما وصل إليها مُدرِّباً لفريق تشلسي، فنادته جماعةٌ من الجمهور الكتالاني "مترجم! مترجم!".
لم يكن مورينيو يكتفي بالترجمة الأمينة لكلام روبْسون، فقد صرَّح بأنه كان يُغْني تصريحاته بأشياء من عنده، "لأننا كنا نتقاسم أموراً كثيرة منذ سنوات تخص التدريبات والخطط والتكتيكات [...] فمع روبسون لم أكن مجرَّد ثانٍ، وإنما بصفتي مدرّباً"، وبذلك يكون مورينيو قد مثَّل المترجِم المشارك للمؤلِّف في العمل، وليس الصدى.