التحليق بـ"البشكير"

30 يونيو 2015
+ الخط -
كنا رهطاً من الصيادين الصغار، نصطاد الطيور، لا حبّاً بلحمها، بل لنضع حداً لقدرتها على الطيران.
كان حلاً أخيراً بالنسبة لنا، نحن المشاة الذين لم نتقن التحليق منذ آخر محاولة نفذها جدنا عباس بن فرناس، ذلك "الغبي" الذي حاول قلب المعادلة. أما نحن فآثرنا أن نفعل العكس، بعد أن عجزنا عن الطيران بمحاولات خائبة، كنا نبتكرها من وحي قراءتنا قصص (سوبرمان).
أقنَعَنا (أبو عميرة)، ذلك الولد البدين ذو النابين البارزين إلى مقدمة شفتيه، وبنطاله المرقع عند مؤخرته، ومخاطه السائل دوماً من منخريه حتى من دون زكام، أن في وسعنا أن نطير إذا ربطنا على أعناقنا "بشكيراً" ينسدل على ظهورنا، ونعتلي سور عمارة "أبو سفيان" المرتفع، ثم نقفز بعد أن نمد أيدينا على هيئة جناحين. ولا حاجة بي للقول إن محاولاتنا كلها كان مصيرها الخيبة المقترنة بالخدوش والجروح، أو بمطاردة أمهاتنا لنا لاستعادة "البشاكير" المسروقة من غرف الاستحمام.
وعقب محاولات كثيرة خائبة، تمخضت قريحة (أبو عميرة) عن فكرة جديدة، قالها وهو يمسح مخاطه بكم قميصه المجعد: "إذا كنا لا نستطيع الطيران كالعصافير، فلنجلب العصافير إلينا"، وصمت منتظراً مداخلاتنا الصبيانية على فكرته التي ألقاها علينا، كمن يلقي حجراً في بركة آسنة.
سألناه عن المقصود، فأجاب: "علينا أن ننتقم من العصافير باصطيادها وأكل لحومها". والحال أن الفكرة وجدت هوساً في نفوسنا، نحن الأولاد الأشقياء، فرحنا نبتكر ما نستطيع من أدوات الصيد: "النقيفة"، والفخاخ المعدنية، وشرعنا نجوب الشوارع الترابية في الأحياء المجاورة، ونجول في الخلاءات المحيطة بالمدينة، نطارد العصافير بحماسة، وكأننا نخوض حرب وجود. إما نحن أو العصافير. وكم كنا نبتهج بسقوط عصفور بين براثننا، فكان أول ما نفعله إعطاب جناحيه، حتى نجرده من تفوقه علينا بذاك الطيران اللعين، بعد أن ردمنا فجوة التحليق الفاصلة بيننا وبينه، وصرنا في العجز سواء.
غير أن ما لم نكن نتوقعه، أن يظل (أبو عميرة) قائدنا ومرشدنا حتى اليوم في مطاردة العصافير المحلقة، بل صار يفكر وحده من دون استشارتنا، وما علينا سوى السمع والطاعة، والامتثال لأوامره.
على هذا المنوال، وبعد أن مسح مخاطه بكمه، أقنعنا أبو عميرة أن ما يحرك العصافير ليس أجنحتها، بل رغبتها بالحرية، وهمس في آذاننا: "إذا استطعنا وأد هذه الرغبة في نفوس عصافير أخرى تمشي على الأقدام، فسنضمن أن لا يحلق في بلادنا أحد".
استهوتنا، نحن القطيع، فكرة (أبو عميرة)، ورحنا، هذه المرة، نطارد رجالاً ونساءً يتوقون للحرية، لنزع كل أجنحة الحرية منهم، قبل أن يجربوا الطيران، مع رقصات همجية كثيرة حول ضحايانا، كلما ظفرنا بواحد منهم.
ثم اتسعت دائرة المصائد، وصارت تتخذ أشكالاً أزيد خداعاً ومكراً، حين قررنا الإيقاع بثورات الربيع العربي التي حاولت التمرد على واقع العجز الذي نعض عليه بالنواجذ، وغدونا أكثر شراسة، لأن حجم التهديد كان عظيماً وغير متوقع، ورأينا (أبو عميرة البدين) يكشر عن نابيه الغليظين، ويشمّر كميه المزنّخين بالمخاط، يطارد عصافير الثورات في كل الميادين، ويجهز على أجنحتها بنفسه، في معركة وجود حقيقية هذه المرة، لأن نجاحها بالتحليق يعني وضع حدّ له، ولكل من على شاكلته من صيادي العصافير العربية.
رأيناه في مصر وسورية واليمن وليبيا ينصب الفخاخ، ويزرع المصائد، ويقتاد العصافير إلى الذبح والأقفاص، ليس حباً بلحمها، بل لمنعها من الطيران والتحليق، وردم الفجوة بين الأمل واليأس بمزيد من اليأس والإحباط وطمس الإرادة في مهدها.
ورأيناه في فلسطين يجهز على أنبل الثورات العربية، ويجردها من مشروعها التحرري، ويحولها إلى ملجأ للعجزة، يستقبل، كل يوم، رهطاً آخر ممن باعوا أجنحتهم براتب تقاعدي.
يا للخيبة.. أتُرانا جنينا على أنفسنا حين خلعنا (البشاكير)، وتبعنا أبا عميرة؟
EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.