خلال الحملة الرئاسية الأميركية العام الماضي، حين كان المرشح دونالد ترامب يستعرض عضلاته الخطابية ضد تنظيم "داعش" وإيران، كانت توقعات الاستخبارات الأميركية تشير إلى أن كوريا الشمالية هي التي ستختبر الرئيس الأميركي الجديد. بعد تسعة أشهر من ولاية ترامب المضطربة، يأتي تحدي بيونغ يانغ، ليس فقط ليكشف عيوب عقيدة خارجية لم تتبلور بعد، بل ليجهض مرة أخرى قدرة هذا الرئيس على لعب دور ريادي في النظام الدولي.
أزمة كوريا الشمالية تعكس بكل بساطة ثلاث مشاكل دفينة في إدارة ترامب: أولاً، هناك رئيس لديه خصوم أكثر مما لديه أصدقاء في واشنطن وحول العالم. تجد إدارة ترامب نفسها لوحدها في هذه الأزمة، ولا حتى كوريا الجنوبية والصين على تناغم معها، والآن موسكو دخلت على الخط لاستغلال الموقف الأميركي المُرتبك. الأوروبيون على مقاعد الاحتياط، يكتفون بالتحذير من التصعيد، بعدما أسهب ترامب في الابتعاد عنهم. الخيارات الدبلوماسية تبقى محدودة. يسعى البيت الأبيض لتوسيع العقوبات الاقتصادية الدولية على بيونغ يانغ، مثل حظر السفر والنفط وتصدير المنسوجات وتجميد أصول الرئيس الكوري الشمالي، كيم جونغ أون، لكن هذه المحاولات تواجه رفضاً روسياً وصينياً. وفي الوقت ذاته، قررت إدارة ترامب فرض عقوبات على المصارف والشركات الصينية التي تتعامل مع بيونغ يانغ. لكن اللافت أن هذه الإجراءات بعزل الشركات الصينية عن النظام الدولي تسير ببطء شديد، وذلك يعود لنقص الموظفين الفيدراليين نتيجة قرار ترامب تجميد التوظيف في وزارتي العدل والخزانة.
المشكلة الثانية، هي استمرار عسكرة السياسة الخارجية من دون أي نظرة شاملة لتحديات النظام الدولي. الحل الأميركي للأزمة الحالية كان إعطاء أسلحة نوعية إلى كوريا الجنوبية واليابان، وبالتالي التمهيد لمواجهة عسكرية غير مسبوقة في الخليج الكوري. أما وزير الخارجية، ريكس تيلرسون، فهو شبه غائب عن السمع، لا يلعب دوراً مشابهاً لأسلافه في مثل تلك الأزمات. تهميش البيت الأبيض لتيلرسون في الفترة الأخيرة لا يساعد على إطلاق يد الدبلوماسية الأميركية. ثالثاً، التغريدات العدائية، أو التصاريح الاستفزازية التي يطلقها ترامب، قد تكون مقبولة في السياسة الداخلية الأميركية، لكن لها انعكاسات خارجية لا يمكن التكهن بها. كلام ترامب عن "نار وغضب لم يرَه العالم من قبل" ضد بيونغ يانغ، وأن الجيش الأميركي يده "على الزناد"، ساهم في تصعيد نظام كوريا الشمالية عبر اختبار قنبلة هيدروجينية يمكن تحميلها على صاروخ بعيد المدى. البنتاغون صوّب تصريحات ترامب، ولمّح إلى أن واشنطن في موقع دفاعي، ولن تبادر إلى الهجوم. وزير الدفاع، جيمس ماتيس، صرح الأحد الماضي، أن أي تهديدات للولايات المتحدة وحلفائها ستواجه "رداً عسكرياً هائلاً". ترامب عدّل من لهجته خلال الأيام الاخيرة ليقول إن المواجهة العسكرية "ليست خيارنا الأول"، لكنه ترك مساحة لغموضه المُفضّل "سوف نرى".
سيناريوهات محتملة في الخليج الكوري
أزمة كوريا الشمالية ليست صنيعة إدارة ترامب. الإدارات الأميركية المتعاقبة سلكت طريق الاحتواء، أكان من بوابة الصين أو عبر المحادثات النووية السداسية الأطراف مع بيونغ يانغ. ترامب حاول طي صفحة سياسة الاحتواء، على افتراض أن التلويح بالقوة قد يقنع قيادة كوريا الشمالية بالتنازل، ويُجبر الصين على التدخل. لكن هذا الأمر لم يحصل عملياً، كيم جونغ أون قرر التصعيد، وبكين تمسكت بموقفها. البيت الأبيض يفرض عقوبات اقتصادية على الصين ويتوقع منها التعاون، والسؤال هو حول ما إذا كانت واشنطن مستعدة للدخول في حرب اقتصادية مع الصين تُضر بالاقتصاد الأميركي من أجل إيصال رسالتها إلى كوريا الشمالية؟ بكين، التي كانت تتعاون مع واشنطن في هذا الملف، بدأت تراجع تكتيكها. إدارة ترامب ستكون عاجزة عن تمرير عقوبات جديدة في مجلس الأمن الدولي، والخيار العسكري مُستبعد، وهو بطبيعة الحال ضرب من الجنون، باعتراف البنتاغون. ترامب انتقد رئيس كوريا الجنوبية مون جاي إن، لأنه يريد الحوار مع جارته الشمالية، هذا مع العلم أن ترامب نفسه كان يتحدث، قبل أشهر فقط، عن احتمال التفاوض مع كوريا الشمالية، وحتى أشاد برئيسها كيم جونغ أون.
القلق في سيول غير مسبوق، أكان من احتمالات الحرب أو حتى من سيناريوهات التهدئة، التي قد تشمل العودة إلى حوار مباشر بين الولايات المتحدة وكوريا الشمالية على حساب كوريا الجنوبية. كل ما يريده كيم جونغ أون هو التفاوض مع واشنطن، وهو يعتقد أن هذه الاستفزازات المتبادلة توصله إلى هذه الغاية. إذا كان هناك من خاسر في هذه المعادلة الجديدة في الخليج الكوري فهو ترامب، الذي لم يستمع لنصائح فريقه الدبلوماسي بالتروي، أما بيونغ يانغ فقد كسبت رهان أن تصبح دولة نووية صغيرة تضمن بقاء نظام يُمعن بالتنكيل بشعبه وبعزله. من الأزمة الخليجية، مروراً بمصير الاتفاق النووي الإيراني، وصولاً الآن إلى كوريا الشمالية، تخبط إدارة ترامب وطبيعة تركيبتها فشلت في إدارة أي أزمة دولية. نرى الآن تحالفاً روسياً - صينياً مقابل برودة أوروبية، فيما واشنطن تبدو معزولة بشكل متزايد. حين نعود بعد سنوات لتقييم رئاسة ترامب، تحدي كوريا الشمالية قد يكون اللحظة المفصلية التي قوّضت سياسته الخارجية وأسقطت مفرداته السياسية، التي ليست لها أي صلة بالواقع، كما أفرغت تهديداته المتكررة من مضمونها، لأنها من دون أفق سياسي أو إدراك لما تعنيه من احتمال توريط بلاده في حروب مُكلفة جديدة. أزمة كوريا الشمالية لرئاسة ترامب قد تكون بمثابة "الخط الأحمر" المُفترض الذي كان وضعه الرئيس السابق، باراك أوباما، في سورية.