في حين تعيش أوروبا مواسم الإرهاب والإسلاموفوبيا وتُمهّد معاناتها الاجتماعية لتغيّرات في الصراع الدائر في الشرق الأوسط، تستعد الضفة الأخرى من الأطلسي لاستقبال لاجئين سوريين. الجميع يترقّب نتيجة التجربة الكندية في دمج الوافدين الجدد.
بحسب الخطة المرسومة، تنطلق الرحلات من العاصمة الأردنية عمّان. وبمجرد أن تحط الطائرات في مطارَي تورونتو ومونتريال، يبدأ العمل الحثيث على تسجيل الوافدين وفرزهم، بعدما تكون فرق الفحوص الطبية والبيروقراطية والأمنية قد أنهت عملها في الشرق الأوسط، لإثبات أهلية هؤلاء للإقامة الدائمة في كندا. ويعني ذلك أن يتمتعوا بالحقوق كافة ويلتزموا بكامل واجباتهم، من دون أن يشمل الأمر حصولهم على جواز سفر كندي ولا على حق الاقتراع.
الخطة التي أعلنتها الحكومة الفدرالية أخيراً، تقضي باستقبال 25 ألف لاجئ خلال ثلاثة أشهر. عشرة آلاف منهم قبل بداية عام 2016، في حين يصل الباقون بحلول نهاية فبراير/شباط المقبل. ومن المتوقع أن يستقر هؤلاء في 36 مدينة كندية، بمساعدة المجتمعات المحلية والمنظمات التي تُنسّق مباشرة مع الحكومة منذ عقود لإدارة مثل هذه الحالات. إلى ذلك، يُستقبل 10 آلاف لاجئ جديد خلال عام 2016 برعاية حكومية، بالإضافة إلى عدد غير محدد من اللاجئين المكفولين من القطاع الخاص.
يُشكّل هذا المسار الذي تعتمده أوتاوا في التعاطي الإنساني مع أزمة اللجوء السوري، مكوّناً أساسياً في سياسة الحكومة الليبرالية الجديدة بقيادة جاستين ترودو. وهو خيار حسّاس في ظلّ تصاعد مشاعر العنصرية في الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا. ولاحتواء المخاوف من إمكانية تسلّل إرهابيين بين اللاجئين، تبنّت الحكومة إجراءات مشددة يُرسَل بموجبها 500 عنصر إلى الشرق الأوسط، نصفهم من السلك العسكري والآخرون من الإدارات المدنية.
ولاعتبارات أمنية، تتحفظ الحكومة حتى اليوم عن كشف كيفية انتشار العسكريين، أما المدنيون فيجرون الأبحاث والتحاليل في المكاتب المخصصة في القنصليات ومراكز التسجيل. يُمكن لمس مدى التزام الماكينة البيروقراطية والفنية الكندية بالقرار المتخذ، عبر معاينة عمل المحافظات والإجراءات العملية لتأمين المساحات اللازمة لوصول الهاربين من الموت. وهذه إجراءات اتخذت سريعاً، حتى قبل كشف النقاب عن التدابير على المستوى الوطني.
في قاعدة فالكارتييه على بعد خمسين كيلومتراً من مدينة كيبك، يحضّر عناصر القوات المسلحة المكان الذي يستوعب 1500 شخص في الوقت نفسه. ثمّة عشرة مبان في القاعدة التي تُستخدم عادة لتدريب طلاب الكلية الحربية خلال الصيف، غير أن البلاد مقبلة على فصل الشتاء الذي تنخفض فيه درجات الحرارة إلى 40 درجة مئوية دون الصفر، لذا تعاقد المعنيون مع شركة تجهيز مبانٍ لعزل الأرضيات والسُقف وبناء جدران خارجية جديدة بالإضافة إلى تأمين أجهزة تدفئة وتهوئة. والورشة التي تفوق كلفتها 1.5 مليون دولار أميركي، هي جزء من الجهود التي تبذلها مقاطعة كيبك لاستقبال أول دفعة.
في مدينة مونتريال عاصمة مقاطعة كيبك، يُمكن بسهولة ملاحظة اللهجة السورية عند التقاطعات الغنية ثقافياً في قلب العاصمة. محمد (22 عاماً) وصل إلى المدينة قبل ثلاثة أشهر ورتّب تسجيله في إحدى جامعاتها المشهورة. يتحدّث بحماسة عن "الهروب من الجحيم والمهانة لمحاولة بناء مستقبل جديد". نبرته هي على النقيض من الأصوات الصادرة من أوروبا التي تعبّر عن معاناة اللاجئين السوريين والهاربين من موت الشرق الأوسط عموماً، وأمنيات أكثرهم بالعودة إلى بلادهم مع أوّل ملامح الاستقرار. هنا، تجد اللاجئين يتحدثون عن مستقبل جديد، عن مشاريع دراسة وأعمال وازدهار.
في أحد مقاهي منطقة سان - لوران الواقعة عند الحدود الشماليّة لمونتريال، تجلس عائلتان سوريتان صغيرتان. الأولى مؤلفة من أب وأم وطفل، أما الثانية المشابهة فهي تنتظر طفلاً جديداً في القريب. القهوة أميركية وليست تركية كما في أحياء الشام وبيروت، غير أن ذلك لا يُفقد الحديث أي لذة، خصوصاً وسط كثرة المواضيع وإثارتها للجدال. تسأل إحدى الزوجتين: "هل رأيتم الرسائل التي انتشرت في محطات الباصات في فرنسا والتي يتحدث فيها اليمين عن رؤيته المحقة وكيف أنه حذّر الجميع مما يحدث؟". من جهتها، تلفت الأخرى إلى أحد أبناء الجالية الذي كان ينتقل في مجمع تجاري مرتدياً جلباباً، قائلة: "لا يُمكن الاستمرار هكذا. ثمة ظواهر لا يُمكن تحملها".
فعلاً، المواضيع مثيرة للجدال. وهي تقع في صلب النقاش القائم بين المهاجرين واللاجئين وأبناء الأقليات أنفسهم، وبينهم وبين الدول الجديدة التي يستقرون فيها. وقد برزت هذه القضايا في مرحلة التحضير لخطة استقبال اللاجئين وتهيئة الرأي العام على هضمها، غداة اعتداءات باريس. وحُدّدت هوية اللاجئين التي ترعاهم الحكومة والمؤهلين للاستقرار في كندا، بالعائلات والأطفال والمثليين جنسياً. أما الرجال العازبون، فتُدرس ملفاتهم فقط في حال كانوا مثليين أو يرافقون عائلاتهم.
وقد أثار هذا الأمر انتقادات من جماعات حقوقية ترى أن الذكور البالغين غير المتزوجين في خطر لا يقل عن ذلك الذي تواجهه الشرائح الأخرى، نظراً لنشاطهم السياسي. تجدر الإشارة إلى أن اللاجئين عبر كفيل من القطاع الخاص، لا يخضعون للشروط نفسها التي تفرضها الحكومة، بل يُطلب فقط تطابق مؤهلاتهم مع تلك المحددة في قانون اللجوء والهجرة الذي تعتمده أوتاوا.
اقرأ أيضاً: كندا تمنح اللجوء لعمّ الطفل عيلان الكردي وأسرته
من المفترض أن تلعب الشروط المذكورة دوراً في تسهيل الاندماج، خصوصاً أنه "أضحى اليوم أصعب بكثير من السابق". وبحسب استطلاع للرأي أجرته صحيفة "مونتريال غازيت" أخيراً، تبيّن أن "ثمة قلقاً متزايداً في أوساط الكنديين من كيفية استقبال اللاجئين الجدد، على الرغم من دعم واضح لمبدأ استقبال اللاجئين". يُذكر أن الاستطلاع ليس علمياً، ويُظهر أن نسبة 45% من المشاركين فيه يرفضون فكرة استقبال اللاجئين من أساسها. لكن، على الرغم من ذلك، يبدو المجتمع الكندي حتّى الآن متماهياً مع قيم التنوع التي يتمتع بها والتي أعاد إحياءها وصول الليبراليين إلى الحكم أخيراً، وتحديداً مع الرسائل الإيجابية حول التعايش والالتزام بالاندماج التي أطلقها ترودو.
من جهة أخرى، ثمّة توافق على أن اندماج الشرق أوسطيين، المسلمين منهم تحديداً، في مجتمعات أميركا الشمالية، أسهل مما هو عليه في أوروبا. نظام المبادرة الرأسمالية يؤمّن حوافز للجميع تدفعهم إلى العمل، وهو ما يشكّل عاملاً يُبعدهم عن التفكير في التطرف. هنا، تقتضي دورة العمل مراكمة أكبر قدر ممكن من الساعات التي على أساسها يُحتسَب الأجر النهائي. بالتالي، لا يقبض من تخلف عن العمل. أما في أوروبا وتحديداً في فرنسا، فيبرز نموذج الرفاهية ما بعد الإنتاج الحدّي، إذا صح التعبير. وهو ما يعني أن الأمان الوظيفي يحفظ حقوقك ومستوى معيشتك مع قرارك تمضية نسبة متزايدة من وقتك خارج دوامة العمل.
من هنا، تبدو كندا كأنها كابوس لتنظيم "داعش" أو أي منظمة أو فكر يدعمه أو يخلفه، فأبناء أحزمة الهجرة هنا منشغلون بالإنتاج والتعلم. وإن وُجدت انحرافات في مجتمعاتهم، فهي تكون عادة محصورة بسرقات صغيرة واتجار بالحشيشة. الفعل الأول موجود في أكثر المجتمعات رفاهية، ويمارسه من يملك المال أساساً. أما الثاني، فلن يعود فعلاً جرمياً مع خطة الحكومة تشريع الماريجوانا.
على الرغم من أن الأصوات العنصرية علت على نحو مسعور وغير مبرّر إلا سياسياً في الولايات المتّحدة مع تعهد الرئيس باراك أوباما استقبال اللاجئين السوريين، إلا أن الفعل العنصري الوحيد الذي ظهر في كندا هو عبارة عن نكتة وسرعان ما ألقي القبض على المهرج - الجوكر الذي أطلقها. في تسجيل فيديو انتشر على موقع "يوتيوب"، توعّد بقتل عربيّ واحد أسبوعياً.
جميع المعنيين بهذا الحدث، من جاستين ترودو وصولاً إلى العائلتَين السوريتَين في المقهى المونتريالي، يأملون أن تمضي الأمور على خير، ويكون اندماج الوافدين الجدد بسلاسة التعايش الحالي بين الأقليات والمجتمع الكندي.
اقرأ أيضاً: كندا تستقبل أول دفعة لاجئين سوريين الأسبوع القادم