التجربة الأستونية: دروس وعبر

26 نوفمبر 2014
+ الخط -
لا يحدث التحوُّل الاقتصادي لدولة ما، تلقائياً أو بمحض الصدفة، ذلك أن تغيير البُنى الاقتصادية، المُتجذّرة لعقود من الزمن، يتطلب تحديد طريقة مبتكرة للاستثمار في الموارد البشرية الوطنية والعمل على تنميتها. وتأخذ عملية التغيير الإصلاحي صبغة تربوية في الأساس، تبدأ تدريجياً من دور حضانة الأطفال لتمتد إلى المدارس والجامعات، تُحوِّل فيها السلوكيات الفردية المنشودة، ضمن السياق الاقتصادي، إلى سلوك مجتمعي رصين، تجعل من المواطن حارساً أميناً لدولة الرخاء التي ننشُد.
وفي هذا الإطار، تبرز تجربة جمهورية أستونيا، الواقعة على بحر البلطيق شمال أوروبا، كتجربة ملهمة لعالمنا العربي الغارق في الأزمات الاقتصادية. هذه الدولة الصغيرة، التي يبلغ تعداد سكانها نحو 1.3 مليون نسمة، تعتبر حالة فريدة في عملية التحوُّل الاقتصادي السلس. فمنذ انهيار الاتحاد السوفييتي وحصولها على استقلالها عام 1991، أدركت أستونيا أنها لن تتمكن من النهوض باقتصادها الهش والفقير في موارده الطبيعية، من دون تركيز جهودها على تنمية مواردها البشرية وتوظيفها بما يجعل اقتصادها أكثر فعالية ونجاعة، مستنداً إلى رأسمال بشري وفكري على درجة عالية من الكفاءة.
وقد عمدت أستونيا، منذ نهايات القرن الماضي، إلى تطوير نظام إلكتروني ﻣﺘﻜﺎﻣﻞ، يربط جميع مدارسها عبر الإنترنت مع التلاميذ وأولياء الأمور، معتمدة على تقنيات ذكية تم تطويرها محلياَ على أيد ماهرة وعقول مُفكِّرة. وتبعته، بعد ذلك، بتجربة فريدة من نوعها لتدريس مبادئ البرمجة في مدارس للأطفال، ما كان له الأثر الكبير في انتعاش القطاع التقني، حتى باتت أستونيا موطن شركات تقنية عالمية شهيرة، وعلى رأسها شركة "سكايب" للاتصال عبر الإنترنت.
وبعد أن أصبحت واحدة من أكثر بلدان العالم اتصالاً بالإنترنت، بدأت وفود عربية رسمية تتقاطر على هذه الدولة الصغيرة، للاستفادة من تجربتها الرائدة في مجال التحوُّل الرقمي، والتي سمحت بإبقاء النفقات الحكومية في حدها الأدنى، وأرست دعائم الدولة الإلكترونية. فاليوم، بات المواطن الأستوني قادرا على التصويت إلكترونياً باستخدام بطاقة المدينة الرقمية، والقيام بكافة العمليات التقليدية، من تسديد الضرائب والفواتير والأمور المصرفية وإجراءات التسجيل والرخص التجارية وغيرها.
وللذين يفضلون، دوماً، الحديث عن شُح الموارد الطبيعية في بلادهم، فها هي أستونيا، البلد الفقير في الموارد، تُقدِّم لنا درساً في كيفية استغلال مواردها الشحيحة بكل كفاءة واقتدار. فبالرغم من أن أستونيا لا تمتلك من حقول النفط أو الغاز ما يكفي لسد حاجاتها من الطاقة، فإنها اتجهت إلى الاستفادة من مخزونها من الصخر الزيتي، في تحويله إلى طاقة بديلة للنفط.
وعلى مدى ثلاثة عقود أمضتها في استخراج أكثر من مليار طن من الصخر الزيتي، تم توفير أموال طائلة على خزينة الدولة. ولم تتوقف التجربة الأستونية في مجال الطاقة عند هذا الحد، بل تسعى حالياً إلى تنويع مصادر الطاقة التي لديها، مستفيدة من وفرة مخزونها من اليورانيوم في بناء مفاعل نووي لتوليد الطاقة الكهربائية، والذي يتوقع إنجازه بحلول عام 2018.
أما تجربة أستونيا في الرعاية الصحية المقدمة للأمهات والأطفال، فهي تجربة واعدة جديرة بالاهتمام والاقتداء بها. فبحسب "مؤشر الأمهات" لعام 2014، الصادر عن منظمة "أنقذوا الأطفال" البريطانية، جاءت أستونيا في المرتبة الـ23 عالمياً كأفضل مكان في العالم بالنسبة للأم، لتتفوق بذلك على دول متقدمة، في هذا المضمار، مثل المملكة المتحدة والولايات المتحدة الأميركية.
فبالإضافة إلى أن أستونيا تمنح الرعاية الصحية المجانية، ولمدى الحياة، لجميع أفراد العائلة، فإن الطفل المولود يحصل على دعم نقدي يعادل راتباً كاملاً لأحد الوالدين، ولمدة تصل إلى عام ونصف.
واليوم وبعد نحو عقدين من استقلالها، فإن أستونيا باتت تُعرف على المستوى الدولي بـ"نمر البلطيق". ولا يبدو ذلك مستغرباً بالنظر إلى أن اقتصادها الذي أصبح يقف على دعائم صلبة ومتينة. إذ ينمو الاقتصاد الأستوني سنوياً بمتوسط يعادل أربعة أضعاف المتوسط الأوروبي، وينعم بوجود فائض مستمر في الموازنة العامة، فضلاً عن تمتع الاقتصاد بمديونية منخفضة تشكل 6% فقط من الناتج المحلي الإجمالي في البلاد.
المساهمون