البوطي غائباً حاضراً

24 مارس 2016
+ الخط -
من الإنصاف القول إن اغتيال شخصيّة على مستوى الشّيخ محمد رمضان البوطي لم يكن ليضع حدّاً للجدل الذي ما تزال أصداؤه تتردّد بين حين وآخر بشأن شخصه وطبْعه ومنهجه العلمي وموقفه بشأن الثورة السّورية، والتي أدّت المواقف منها إلى شروخٍ وانقسامات ضمن المجتمع السوري.
على الرغم من مرور نحو ثلاث سنوات على حادثة اغتيال البوطي، لا يمكن أن ننكر أن له حضوراً خاصاً (إيجابياً أو سلبياً) في أذهان عموم الشعب السّوري ونخبته، لأن الرّجل تربّع على رأس هرم المؤسّسة الدّينيّة، علمياً ومنهجياً، فضلاً عن دوره على الصّعيد الأكاديمي، من خلال إمساكه بزمام كلية الشّريعة سنواتٍ طويلة، حيث نجح، إلى حدّ كبير، بالنأي بكلّية الشريعة عن التّيارات العلمية غير المرحّب بها منه، ومنْ قبل النظام والتيّار السّلفي.
هذا لا يعني أنّ البوطي رضخَ، في مرحلةٍ معيّنة، أو انقاد لتصوّراتٍ لمْ يضعها هو بنفسه، فهذا أبعد ما يكون عن طبيعة شخصيّته التي لا بدّ من دراستها بدقّة وعمق، لتتّضح فيما بعد الآلية التي استطاع النّظام من خلالها النّفوذ إلى شخصه، ومن ثمّ الإطلال على الناس من خلال خطابه الدّيني، ومن دون أن يشعر هو نفسه ربما.
كلّ منْ عرف البوطي عن قربٍ، علم أنه حادّ الطّبع، مزاجي النّزعة، وهو بهذا جمع النقيض إلى نقيضه، فكثيراً ما تراه دامع العين، خاشعاً من دون تكلّف، سيّال القلم بعباراتٍ تلين له وتستعصي على غيره منْ أعتى الكتّاب في عصره، أمّا الصفة الأبرز في شخصه والوثيقة الارتباط بموضوعنا، فهي كونه معتدّاً بما عنده من ملَكاتٍ وقدراتٍ عقلية وعلمية، والحقّ يقال إنه قد أوتي منها النّصيب الأوفى، ولا ينْكر ذلك إلا جاحد، وهو ما سيرتكز عليه النظام.
كثيراً ما كان يحسم لنا موضوع الخلاف العلمي، ونحن على مقاعد كلية الشريعة بعبارةٍ تهكميّةٍ بحق الخصم العلميّ، تَخرج، في أحيانٍ كثيرة، عن مألوف العرف فيما يتعلق بحدٍ أدنى من الاحترام المتبادل بين حملة المذاهب الفكرية، كقوله مرةً، وهو يلغي صفحاتٍ متعلّقة بعقيدة السّلف في مسألة الصفات: "هذا الحكي عْلاك".
مشكلة البوطي مع التّيار السلفي بشقّه العلمي قديمة، وصلت، أحياناً كثيرة، إلى درجة تداخُل الذاتي بالموضوعي، لكنّ كلمةً نطق بها عند بداية بروز المدّ السّلفي -العلمي، لا الجهادي - في سورية، وخصوصاً في حوران، كان لها مدلولات عميقة على مدى تداخل وترابط مصالحه الفكرية، لا الشّخصية، مع مصالح النظام، وهذا قبل الثورة بسنوات. حينها، قال تعقيباً على جهود الأجهزة الأمنية للدولة في الحدّ من انتشار التيّار السلفي: "لم يشكر الله منْ لم يشكر الناس".
لمْ يكن للبوطي وسيلة للوصول إلى معلومات عما يحدث في سورية، إلا عبر صلته الوثقى بالنظام، وقنواته التي ربّما تمثّلت بالخاصّة منْ حوله، أمّا العامّة فقد انفضّوا منْ حوله، كما ظهر على شريط الاغتيال، إذ تخلصوا من ألوفٍ إلى عشراتٍ على أحسن تقدير، الأمر الذي لم يزده إلا إصراراً على موقفه، كما بدا حينها.
انتظر كثيرون ممن درسوا على يد البوطي، وعرفوه عن قرب، تلك الخطوةً الجريئةً التي ظننّا أنّه جديرٌ بها، وأنّها مسألة وقت فقط، وظننّا حينها أنّ عامل الحسم سيتناسب طرداً مع عامل الزّمن لصالح الثورة.
لم يعلم البوطي، وهو يلقي درسه الأخير في "جامع الإيمان"، وسط زحمة الفروع الأمنية، أنّ جوارَ صلاح الدين الأيوبي الكردي كان قد هُيّئ له بما يمثّله من استنْهاض واستجلاب واستحلاب للعاطفة والدّين والتاريخ والعِرق.
الورقة الرّابحة الأخيرة في المشهد كلّه هي "استثمار الموت"، فهنا يكون استثمار الموت أجدى وأضمن من استثمار الحياة.
065AA779-1B94-40AF-8E12-7B20F41D1AFD
065AA779-1B94-40AF-8E12-7B20F41D1AFD
عمار الكاغدي (سورية)
عمار الكاغدي (سورية)