يُعد الرحالة والمتصوف مصطفى البكري الصديقي، واحداً من ألمع الشخصيات الصوفية في القرن الثاني عشر الهجري، والثامن عشر الميلادي، فهو الذي بعث الحياة في الطريقة الصوفية الخلوتية، وأمدها بنسغ جديد جعلها، عبر رحلاته العديدة التي كان يقوم بها في أرجاء الشام والعراق والروم، واحدة من أكثر الطرق الصوفية انتشاراً في ذلك الوقت.
وُلد مصطفى بن كمال الدين بن علي بن كمال الدين بن محيي الدين بن عبد القادر الصديقي الحنفي الدمشقي البكري، في مدينة دمشق عام 1688 قبل وفاة والده الشيخ كمال الدين بستة أشهر، فنشأ يتيماً في حجر ابن عمه المولى أحمد بن كمال الدين، وبقي عنده في داره الكائنة قرب البيمارستان النوري.
وعمل منذ صغره في طلب العلم، فقرأ على الشيخ عبد الرحمن بن محيي الدين السليمي، والشيخ محمد بن أبي المواهب الحنبلي، وكان يطالع له الدروس الشيخ محمد بن إبراهيم الدكدكجي، كما قرأ أيضاً على الملا إلياس بن إبراهيم الكوراني، والملا عبد الرحمن بن محمد الكابلي، والشيخ محمد البديري، والشيخ عبد الغني النابلسي، والشيخ مصطفى بن عمر، والشيخ أحمد بن عبد الكريم الغزي العامري.
وأخذ الطريق الخلوتية عن الشيخ عبد اللطيف بن حسام الدين الحلبي الخلوتي، الذي لقّنه الأسماء، وعرّفه حقيقة الفرق بين الاسم والمسمى، فأقام بحجرة في إيوان المدرسة الباذرائية لمدة عام بهدف الاعتزال والخلوة والاشتغال بالأذكار والأوراد، ثم أذن له شيخه بالمبايعة والتخليف إذناً عاماً. وبعد وفاة الشيخ، توجه تلامذته إلى الصديقي واجتمعوا عليه وجددوا له أخذ البيعة، فكان ذلك بداية شهرته كشيخ طريقة صوفية.
ذكر المؤرخ محمد خليل المرادي في كتابه "سلك الدرر" أن عدد مؤلفات الصديقي بلغت مائتين واثنين وعشرين مؤلفاً؛ وجميعها لها أسماء تخصها مذكورة في أوائلها، كما له نظم كثير وقصائد خارجة عن الدواوين تقارب اثني عشر ألف بيت.
تناولت مؤلفاته موضوعات شتى، فمنها ما كانت صوفية مثل ألفيته في التصوف، و"هدية الأحباب فيما للخلوة من الشروط والآداب". ومنها المقامات التي وصفها المرادي بأنها كانت في أعلى مقام البلاغة وأتم نظام الفصاحة. ومنها الشروحات على رسائل بعض الأشخاص، ومنها أيضاً تراجم لبعض شيوخه ومن تأثر بهم، مثل "الكوكب الثاقب فيما لشيخنا من المناقب"، و"الثغر الباسم في ترجمة الشيخ قاسم"، ومنها الأوراد مثل "التوجه الوافي والمنهل الصافي" و"أوراد الأيام السبعة ولياليها".
وأما رحلاته، فقد ذكر المرادي منها اثنتي عشرة رحلة، كان الهدف الرئيس منها دينياً تمثل في نشر طريقته الخلوتية وجمع المريدين حوله، وهذه الرحلات هي: "تفريق الهموم وتغريق الغموم في الرحلة إلى بلاد الروم"، "الخمرة المحسية في الرحلة القدسية"، "الحلة الذهبية في الرحلة الحلبية"، "الحلة الفانية رسوم الهموم والغموم في الرحلة الثانية إلى بلاد الروم"، "الخطرات الثانية الأنسية في الرحلة القدسية"، و"كشط الصدى وغسل الران في زيارة العراق وما لها من البلدان"، و"الفيض الجليل في أراضي الخليل"، و"النحلة النصرية في الرحلة المصرية"، و"برء الأسقام في زمزم والمقام"، و"أردان الإحسان في الرحلة إلى جبل لبنان"، و"لمع برق المقامات العوال في زيارة سيدي حسن الراعي وولده عبد العال". وسنتناول في مقالتنا هذه رحلته إلى مصر المسماة "النحلة النصرية في الرحلة المصرية".
وتعد رحلات الشيخ البكري الصديقي من أفضل النصوص الأدبية التي تعبر عن روح القرن الثامن عشر، سواء في طغيان الصوفية على الحياة العامة في البلدان العربية، أم في طرق الكتابة والإنشاء العربي، حيث يكثر زخرف اللغة وتنميقها على حساب المعنى.
الرحلة المصرية
في عام 1719 أراد الشيخ مصطفى البكري زيارة القاهرة، ذات الربوع الزاهرة، وفي طريقه إلى مصر أقام في الخليل أياماً، جاءه فيها شيخ موهوب مجذوب يكنى بأبي جاعد، فسأله الشيخ بالإشارة عن التوجه إلى مصر، فأومأ بيده نحو السماء، مشيراً إلى أن العلم لله. وعاد الشيخ مصطفى إلى القدس، وأقام إلى أن مضى شهر الصيام.
وفي شوال توالت الأخبار بأن جناب الدستور المكرم والمشير المفخم الحاج رجب باشا تولى الديار المصرية، ومراده زيارة الأراضي القدسية والخليلية، ومنها ينزل إلى العريش، وكان له مع الشيخ صحبة ومودة، من مدة طويلة. وبعد زيارة الخليل، والمعاهد والمشاهد فيها، سارا صحبة الباشا إلى بيت جبريل، ونصب لهما خيمة، وعين لهما ما يحتاجان إليه من كثير وقليل.
ولم يكن للشيخ في هذا المسير رغبة، لما فيه من المخاطر، وما كان قد استعد لمثل هذه السفرة الشاقة، وودع الذين صحبوه، وشرع لفوره في كتابة رحلته وسماها "النحلة النصرية في الرحلة المصرية"، وسار في الصباح لغزة، ثم سار إلى خان يونس، وبات فيها.
ثم توجه نحو العريش ثم توجه نحو بير العبد ذي الماء الملح فلم يطق فيه مقاماً، وجهد حتى وصل قطية ومال لسهلها ونزل عليه، ورحل إلى الصالحية وتلقاه هناك نذر من جند مصر المحمية. وكان رافقه من غزة هاشم الشيخ صالح مفتيها، فتمرض في الطريق ودفن في الصالحية.
ونزل بعد ذلك نخيل بلبيس، وارتحل للخانكه وأتاها ليلاً، وأمر الوزير بعض من عول عليه من جند مصر، بإنزالهما داخل المدينة في مكان مناسب، وأرسلهما مع خادمه إلى دار محمد بك المكنى بأبي الشوارب، وورد عليهما للسلام أعيان البلد، وهي دار واسعة الأكناف، ممتدة الجوانب والأطراف، مقسمة إلى بيوت أربعة، كل بيت يسع الصنجق والذين معه. ويقول الشيخ في وصف الدار: "وكنا في ربعها نتيه، ونكاد إذا درنا في جنباته أن نتيه".
ولما دخل مصر القاهرة، شهد مدينة بالمباني الفاخرة، ورأى فيها أشياء كثيرة، لم يرها في غيرها من المدن الشهيرة، فتحقق أنها بلدة جمعت محاسن خطيرة، ولم يقل كما قال البعض إنها قرية كبيرة، بل قال كما قال الإمام الشافعي عنها "كنت أظن أن مصر في الدنيا، فرأيت الدنيا في مصر، وكان الوزير الكبير، سأل الشيخ قبل دخول مصر، عن محل نزوله، فأجابه في محل يكون شيخه الشيخ محمد الخليلي فيه، فسأله: "ولم لا تنزل في بيت البكري الوسيع؟" فأجابه: "رغبة في صحبة الشيخ الرفيع، وإن دعانا شيخ السجادة إليه أجبناه".
ويقول الشيخ: "وأقمنا في هذا البيت مدة، وأظهر لنا كبير بيتنا صده، وجعلنا حرفاً منسياً، كمن جاء شيئاً فرياً، فنفرت النفس". وارتحل إلى دار في الخرنفش صغيرة الدائرة، تحت تصرف صديقه إبراهيم أفندي، القاضي، وهي لصيقة قاعة التجلي التي للسادة الوفائية، وكان يتردد عليها، وربما أقام ليلاً ونهاراً لديها. ويقول الشيخ إن هذه القاعة نظير قاعة الجلال التي في بيتهم، وقد دخلها شيخه الشيخ عبد الغني النابلسي.
مقامات القاهرة
وأول ما ابتدأ به من الزيارات مقام السيدة نفيسة، ومنه إلى مقام الإمام محمد بن إدريس الشافعي. ثم عطف بعد ذلك على زيارة شيخ الإسلام زكريا بن أحمد زين الدين الأنصاري السُنَيْكي، ثم القاهري الأزهري. ثم زار أسلافه الكرام السادة البكرية، ووقف قبالة القطب الكبير سيدي محمد، وقرأ فاتحة الكتاب.
وتقدم بعد ذلك لزيارة عم والده، جناب العالم أحمد أفندي نجل والد جده الشيخ كمال الدين البكري نزيل دمشق الشام والقاطن بها هو ووالده وجده، وكان وفد الجد المذكور من مصر إليها، ثم إنه استحسنها وعول في السكنى عليها. وعم والد الشيخ ورد على مصر من الحجاز معزولاً عن قضاء مكة، وتوفي ثاني يوم دخوله وذلك سنة (1118هـ).
ثم سار لزيارة أبي الحارث الليث بن عبد الرحمن ابن أبي الثنا الفهمي القرقشندي وهو من تابعي التابعين، القائل رأيت نيفاً وخمسين رجلاً من التابعين. وقال في حقه يحيى بن بكير، الليث أفقه من مالك. وهو شيخ البخاري ومسلم؛ ولد سنة أربع وتسعين وتوفي عام خمسة وسبعين ومائة. وزار بعد ذلك جملة صالحة من سكان القرافة لا يمكن عدهم.
ثم قصد زيارة محمد الحنفي، نجل علي شمس الدين الشاذلي، ثم توجه لزيارة مقام الحسين بن علي رضي الله عنه، ويوضح أنهم اختلفوا في رأس الحسين بعد مصيره إلى الشام أين صار، وفي أي موضع استقر، فذهبت طائفة إلى أنه طيف به في البلاد حتى انتهى إلى عسقلان فدفنه أميرها، فلما غلب الإفرنج على عسقلان افتداه منهم الصالح طلايع وزير الفاطميين بمال جزيل ومشى إلى لقائه من عدة مراحل، ثم بنى عليه المشهد المعروف في القاهرة، وإلى ذلك أشار القاضي الفاضل في قصيدة مدح بها الصالح طلايع.
وصار آخرون ومنهم الزبير بكار والعلاء الهمداني إلى أنه حمل إلى المدينة مع أهله فكفن ودفن بالبقيع عند قبر أمه وأخيه الحسن. وذهبت الإمامية إلى أنه أعيد إلى الجثة ودفن بكربلا بعد أربعين يوماً من القتل. ورجح القرطبي، الثاني قائلاً ما ذكر من أن في عسقلان مشهداً هناك أو بالقاهرة باطل لا أصل له. وانتهى إلى أن الذي عليه غالبية طائفة من الصوفية أنه بالمشهد القاهري.
ثم زار الشيخ، علم هذه الديار، وأحد أركان مصر، مقام الشيخ عبد الوهاب بن أحمد الشعراني، الذي يتصل نسبه بسيدي محمد بن الحنفية نجل الإمام علي رابع خلفاء المختار، وكرر له الزيارة فهو أحد أشياخه ثم زار مقام الشيخ محمد الكردي الكائن بعد باب الفتوح، ثم مال لزورة الخواص، وضريحه بزاوية الشيخ بركات خارج باب الفتوح تجاه خوص.
ولقد دعاه جناب الشيخ على نجل الحنفي الولي، إلى مكان نزيه ذي أبنية وثيقة، في مصر العتيقة، وكان بحر النيل في ازدياد على المعتاد، فأركبه والشيخ محمداً الخليلي، قياسة له صغيرة، وأرسلهما للتفرج على المقياس فسارا ورأيا العمود فيه مغطى بالمياه، ورأيا الماء نازلاً عما عليه كان، لأنه فاض من الدرج الخارج وعم ساحة المكان؛ ثم عادا إلى محل الضيافة، فإن أمواجه كانت كبيرة، واختلاف أهويته كثيرة، وكان كبير ذلك المحفل الجامع والداعي لبيته وضيافته جناب الشيخ عبد الرؤوف البشيشي، وقطعا ذلك النهار، والداعي الصفي نجل الحنفي الوفي يلاطفهما.
ثم توجه صحبة الشيخ محمد الخليلي إلى جامع عمرو بن العاص بن وائل السهمي فاتح مصر، وقد لقب أبوه بالعاصي على أحد الأقوال لأنه كان يتقلد بالعصا عوضاً عن السيف فسمي بالعاصي. وكانت زيارته وزيارة عقبة بن عامر الجهني تقدمت، ورأى الشيخ في الجامع مصحفين ينسبان للإمامين عُثمان وعلي رضي الله عنهما، ويقول: "إنه بالبعد عن المدينة، اضمحلت بعض رسومه المتينة"، وصعد المنبر، فوعظ وسار بعد ذلك إلى مصر العتيقة وكر ثانياً إلى المقياس.
ويقول الشيخ ولو أراد سرد ترجمة من زارهم في القرافتين وقبور المجاورين، لاحتاج إلى وقت طويل. وكان من الذين أخذوا العهد على الشيخ ومن المترددين عليه الشيخ محمد الحفناوي. وممن دعا الشيخ إلى داره الشيخ محمد العناني ذو النسب العمري والحسب الشمسي القمري، وأغدق عليه المبرات. وكان الشيخ قد زار في أوائل قدومه الولي الشيخ محمد الدمرداش، ودعاه أولاد الشيخ محمد صاحب السجادة والشيخ عثمان، ودخل خلوة الشيخ.
زيارة السيد البدوي
في يوم السبت سابع جمادى الثانية، توجَّه لزيارة أحمد البدوي، صحبة الشيخ محمد الحفناوي وأخيه الشيخ يوسف، والشيخ حسن، والسيد عبد الله السلفيتي نجل المرحوم السيد حسن، والأخ إبراهيم الحرستاني المعروف بالبلاسي، وما زال يسير إلى أن عدّي في المعدية إلى قرية المرحوم وبات ليلة، وجاء السرَّاق في الليل، يسطون على الخيل فخيب الله مسعاهم، وسار في الصباح مع إخوانه إلى قرية مليج، وزار مقام علي المليجي، وتملّى بالجامع الذي عمره إسماعيل بك ابن إيواز ونزل دار صديقه الحاج عمر.
ثم استمرَّ في السير إلى أن لاحت قبة السيد المزور، فنزل في البلد وقرأ الفاتحة، وكان معه الشيخ محمد الأجمل الحفني، وبقية الرفاق، وورد عليه المحب الشيخ محمد الإسقاطي وأخبره أن والده قادم للزيارة مع جماعة، واستفسر عن نية الشيخ للتوجَّه إلى دمياط وطلب أن يرافقه. وفي الصباح سار لزيارة مقام عبد الوهاب الجوهري، وأخبر أن جناب الشيخ محمد البديري بن الميت في قريته فتوجه إليه واجتمع عليه وطلب أن يرافقه الشيخ في المعدية إلى دمياط، فقال له إنه وعد بذلك الشيخ محمد الإسقاطي، فقال إذن نزور في البر قبل الوصول إلى البحر جناب الشيخ محمد الشناوي، فأجابه لذلك.
وعاد إلى المنزل فوفد عليه العالم والد الشيخ محمد جناب الشيخ أحمد الإسقاطي، وأكَّد كلام ولده، ثم ودَّعه، وعاد عند الظهر إلى الجامع الأحمدي، وبعد العصر، حضر لعنده فاضل، يدرِّس في الجامع قريباً من الإمام، وهو شريك الأخ الشيخ محمد علي المرحوم جناب الشيخ أحمد الخليفي فدعاه لداره، وودَّع الداعي بعد قيامه بأمر الضيافة فلما وصل فناء مسجد الشيخ، رأى شاباً ممسكاً بالشباك، وهو يبكي والناس حوله يهدون الفواتح للسيد، فإذا هو ليده ممسك مقيد، فسأل الشيخ عن قصته، فأخبر أنه سرق حماره، ففطن به، فأنكر، فأتى به إلى الشيخ لعله يتوب، فوضع يده على الشباك ليحلف، فأمسك الشيخ بيده فتاب وبكى، فلم يطلق إلا بعد ساعتين أو أكثر حتى شفع فيه جميع من حضر.
وبات ليلته وجاءه الأخ محمد بما تيسر من الزاد، وحضر الشيخ محمد الإسقاطي بالدواب فتوجَّه معه إلى أن لحقوا بالشيخ محمد البديري، ونزل قريباً من زاوية الشناوي، وما زالوا يسيرون حتى وصلوا المحلة الكبرى، ونزل الشيخ في وكالة الحرير، وكان الشيخ أحمد الإسقاطي نزل عند محب قديم يقال له الحاج إبراهيم رضوان فأرسل ولده يستدعي الشيخ، فذهب وبات عنده. وفي الصباح توجَّه يوم الخميس إلى قرية سمنود وركب والشيخ أحمد في قباسة حتى وصل المنصورة وقصد زيارة الشيخ عبد الله الرفاعي.
وبعد صلاة العشاء أقلع والريح غير مريح، فوصل قبل دخول صلاة الجمعة إلى (شربين) وبعد الصلاة زار مقام سيدي شمس الدين محمد الشربيني. وسأله الشيخ يوسف الزين شقيق الشيخ محمد الحفناوي تخميس بيتين ففعل.
في دمياط
ولما وصل فارس كور توجَّه إلى زيارة الشيخ أبي مدين الحدادي، وكانت ليلة مولده والفقراء يسعون إليه من كل نادٍ، فقرأ له الفاتحة وزار على إثره الشيخ إبراهيم الأحمدي، فقدم له رز بحليب فأكل منه لقيمات وصلى الصبح في جامعها الكبير، وتوجه إلى مدينة دمياط ودخلها مع الظهر يوم السبت. وبعد أن زار المقامات فيها عزم على السفر في البحر إلى يافا.
وركب في سفينة تدعى الشيطية وجلس في القمرة التحتية. وقال: "عددت نزولي فيها من الذنوب السوالف، حتى جرى الدمع على الخدود والسوالف، ولقد كنت أتطير من النزول في المغفر، لما أسمع من تعاطيهم المنكر، ولما عرف مستأجر المركب قبطانه فينا، أخذ يلاطفنا ويصافينا، حتى أنه أذاب ماء وسكراً ممزوجاً بماء الليمون، وأتاني به فلم أقبله خوفاً من نجاسة الماعون، فنادى المستأجر وأخبره بطهارته، فأعلمه بعدم شربه، ومن مهارته أمره أن يغسل آنية، وأن يتعاطى تذويب السكر بيده علانية، ففعل كما أمر وجاءني بها الريس، وأظن اسمه عمر، فشربت بعض شربي، حيث طاب قلبي، وصار يتطلف بي، ويدعي ودي وحبي، وأنا بريء منه ومن وداده، وفي غنية عن حبه وانقياده".
ونام أول ليلة وهو يأمل سرعة الوصول إلى يافا، فتراءى له في المنام أحد شيوخ دمشق الشام واسمه أحمد سراج، ونشر أصابعه الخمس، فاستفاق الشيخ مذعوراً، وبان أن المراد الإقامة في البحر خمسة أيام، ومكث الريح المريح أربعة أيام يهب ويستريج وقابل هو وإبراهيم البلامي الحريثي الرسالة المرسومة بـ"المنهل العذب السائغ لوراده، في ذكر صلوات الطريق وأوراده". وقابل "الألفية في طريق السادة الصوفية".
وضاق الشيخ ذرعاً لطول الإقامة في البحر، من أمر النجاسة، فإنهم أي أهل المركب كانوا غارقين فيها حساً ومعنى ولأنهم لا يعرفون أنها من الخساسة.
كرامات
وفي ليلة الخميس ويومه، طالت كربة الشيخ ومن معه، فتوسل بالشيخ أحمد البدوي أن يسوق له صبيحة الجمعة "الريح الملئم ليخلص من القبطان وجنوده، جنود الشيطان، وجاءه القبطان يشكو قلة الماء، وأقسم بدينه أن الماء لا يكفيه غير اليوم مع التدبير، ولم يبق عنده إلا أواني الخمر.
فاغتاظ الشيخ من كلامه وتأثر، وقال للمستأجر وكان هو الترجمان بينه وبين القبطان: إن الله سيسهل بالفرج ويزول الضيق، فقال له قل له يأمر الركاب يجتمعوا ويدعوا الله عيسى يجيب. فأجابه الشيخ قائلاً للترجمان قل له إن في هذا اليوم المبارك بعد الظهر بيسير، يأتي الريح وتدخل يافا قبل الغروب ولا أبات الليلة الداخلة إلا في يافا ذات الوجه النضير".
ففهم القبطان ذلك وسرَّ ولم يقطع بقول الشيخ. ولما زالت الشمس هبَّ النسيم، ثم زاد على المعتاد حتى خال الشيخ "الشيطية" تطير في المسير، وخاف الشيخ من تقريع القبطان، وستر السَّتار الكبير، وفرش له فوق قمرته للتفرُّج على البحر، وكشف البر عقيب العصر وزال الضيق، وألقى المرساة ونزل الشيخ في "قياسة" صغيرة وبات في جامع البحر ليلة السبت وقد سرَّ سروراً عظيماً. ورأى القافلة متوجهة إلى الديار، فحمد الله على تسهيل قرب المزار، وبلوغ الوطن.