20 مايو 2019
البغال لا تلد الرجال
المحساني عزيز (المغرب)
لم يعرف علال الملل والكلل طول حياته. ما زال أصدقاؤه حينما يريدون العبث والتهكم معه يذكّرونه بليلة ولادته، وكيف أن أمه عانت من مخاضه ليلا طويلا، حتى إنها ألقت بنفسها من أعلى السرير إلى الأرض، وكيف كانت تتمرغ في الإسطبل، وهي عادة جرت عليها أيام الوحم. لقد تعلقت ببغلهم حد الجنون في أسابيع حملها الأولى، ترتمي تحته، تحك وجهها بجسمه، تملط جسمها ببوله وروثه، لقد صنع والده المستحيل لمنعها، حبسها أياما، وأشبعها ضربا. لقد ذهبت به الظنون مذهبا بعيدا، إذ تردد مرارا وتكرارا على الفقيه صالح، فلم تمنع نصائحه ومواعظه وساوسه وشكوكه: هل هو حمل سفاح؟ هل سيولد لي مولود من بغل ينسب لي؟ رباه إذا كان برأس إنسان وجسد بغل أو العكس... ويحاه، أتقول قبيلة شوحة أن حمدوش لم يصن عرضه؟ أو أنه بلا رجولة حتى أن زوجته ضاجعت بغله؟
كل هذه الهواجس هاجمته، وأطبقت عليه من كل حدب وصوب. وقد زاد أوارها أخته فطوش التي لم تتوقف عن التهديد والوعيد، واللوم والتأنيب، حتى دفعته في إحدى الليالي إلى وضع نصل المنجل على عنق زوجته لقتلها، ولولا تكبيرة آذان الفجر لكانت بجوار خالتها، معزوزة، التي قتلتها أمها خشية العار، بعد أن غرّر بها عيوش الدلال، الذي كان يزور القرية صباح كل خميس على حماره ليبيع النساء ما يحتجن إليه، مستغلا غياب الرجال في السوق الأسبوعي، بأنه سيتزوجها ويصحبها معه للمدينة.
كانت ليلة ولادة علال رهيبة، كل القرية باتت على أعصابها، النساء فوق السطوح وعلى عتبات الأبواب، والرجال في الساحة الخارجية للمسجد، حتى الفقيه صالح الذي أظهر ورعه وتقواه بتحذير أهل القرية مما يقترفونه، لم يمنعه الفضول من الصعود إلى مئذنة المسجد بصحبة زوجته. كانت ليلة ساخنة وحارة، أصبحت البيوت فيها أفرانا موقودة، القمر فيها اكتمل وبسط أنواره على القرية، البغال والحمير، وعلى غير عادتها لم تتوقف عن النهيق، قدور السلفي لم يكف عن الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم، وترديد حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَـنـْهُ عن أَنَّ النـَّبـِيَّ صَـلـَّى اللهُ عَـلـَيْهِ وَسَـلـَّمَ قَالَ: "إِذا سَمِعْـتـُمْ صِـيَاحَ الدِّيَـكَـةِ فـَاسْـألـُوا اللهَ مِـنْ فـَضْـلِهِ. فـَإِنـَّهَا رَأَتْ مَـلـَـكـًا وَإِذا سَمِعْـتـُمْ نـَهـِـيقَ الحِـمَـار فتـَعوَّذوا بـِاللهِ مِـنْ الشَّـيْطـَان .فـَإنـَّهُ رَأَى شَـيْـطـَاناً". أما الديكة فقد خرست إلى غير رجعة، حتى المؤذن الشرنوبي اختفى عن الأنظار. كانت ولادة عسيرة ومخيفة، لم تترك يد حمدوش المنجل أبدا، وهو يتحرك في حوش الدار جيئة وذهابا، إذ كان الموت ينتظر علال، يترقبه بعينيه الجاحظتين، مع أول إطلالة للفجر ومع أول صدعة للآذان.
رجّت صرخة علال مدوية في البيت، وتلقفت أذنا حمدوش كلمات خالتي ميلودة: "تبارك الله، إنه ولد! يا صلاة النبي قمر وبصحة البغل".
تراخت أصابع يد حمدوش عن مقبض المنجل ليسمع صوت وقوعه على الأرض، ولم يشعر إلا وهو يدفع باب الغرفة ويقذف بنفسه وسطها مذهولا. صاحت خالتي ميلودة: "اقترب يا سي حمدوش لا تخف إنه يشبهك تماما، انظر إلى رأسه المدور، وشفتيه المموجتين، وأنفه المفلطح، إنه ابنك البكر، مبروك وألف مبروك".
اقترب حمدوش في سكينة ورهبة والعرق يتصبب من جسده، والهواجس تمزقه: "هل له ذيل؟! أذنان طويلتان؟!"، أسئلة لا تنتهي، كالحطب الملقى في فم اللهب. سمع صوتا خافتا وضعيفا ينسحب من جسد ملقى بجوار الصبي: "اقترب يا عزيزي لا تخف، إنه ابنك، البغال لا تلد الرجال!".
أحس بالدم يتدفق في جسمه، "البغال لا تلد الرجال"، "البغال لا ترد الرجال"، صداها يمزّق طبلي أذنيه، امتدت يداه إلى الصبي وهو يردّد: "من يصدق أن الرجال تلدها البغال؟".
مرت السنين وأصبح علال رجلا، أعطى كل وقته وجهده للأرض، كان يعمل مثل البغل من دون كلل أو ملل.
كل هذه الهواجس هاجمته، وأطبقت عليه من كل حدب وصوب. وقد زاد أوارها أخته فطوش التي لم تتوقف عن التهديد والوعيد، واللوم والتأنيب، حتى دفعته في إحدى الليالي إلى وضع نصل المنجل على عنق زوجته لقتلها، ولولا تكبيرة آذان الفجر لكانت بجوار خالتها، معزوزة، التي قتلتها أمها خشية العار، بعد أن غرّر بها عيوش الدلال، الذي كان يزور القرية صباح كل خميس على حماره ليبيع النساء ما يحتجن إليه، مستغلا غياب الرجال في السوق الأسبوعي، بأنه سيتزوجها ويصحبها معه للمدينة.
كانت ليلة ولادة علال رهيبة، كل القرية باتت على أعصابها، النساء فوق السطوح وعلى عتبات الأبواب، والرجال في الساحة الخارجية للمسجد، حتى الفقيه صالح الذي أظهر ورعه وتقواه بتحذير أهل القرية مما يقترفونه، لم يمنعه الفضول من الصعود إلى مئذنة المسجد بصحبة زوجته. كانت ليلة ساخنة وحارة، أصبحت البيوت فيها أفرانا موقودة، القمر فيها اكتمل وبسط أنواره على القرية، البغال والحمير، وعلى غير عادتها لم تتوقف عن النهيق، قدور السلفي لم يكف عن الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم، وترديد حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَـنـْهُ عن أَنَّ النـَّبـِيَّ صَـلـَّى اللهُ عَـلـَيْهِ وَسَـلـَّمَ قَالَ: "إِذا سَمِعْـتـُمْ صِـيَاحَ الدِّيَـكَـةِ فـَاسْـألـُوا اللهَ مِـنْ فـَضْـلِهِ. فـَإِنـَّهَا رَأَتْ مَـلـَـكـًا وَإِذا سَمِعْـتـُمْ نـَهـِـيقَ الحِـمَـار فتـَعوَّذوا بـِاللهِ مِـنْ الشَّـيْطـَان .فـَإنـَّهُ رَأَى شَـيْـطـَاناً". أما الديكة فقد خرست إلى غير رجعة، حتى المؤذن الشرنوبي اختفى عن الأنظار. كانت ولادة عسيرة ومخيفة، لم تترك يد حمدوش المنجل أبدا، وهو يتحرك في حوش الدار جيئة وذهابا، إذ كان الموت ينتظر علال، يترقبه بعينيه الجاحظتين، مع أول إطلالة للفجر ومع أول صدعة للآذان.
رجّت صرخة علال مدوية في البيت، وتلقفت أذنا حمدوش كلمات خالتي ميلودة: "تبارك الله، إنه ولد! يا صلاة النبي قمر وبصحة البغل".
تراخت أصابع يد حمدوش عن مقبض المنجل ليسمع صوت وقوعه على الأرض، ولم يشعر إلا وهو يدفع باب الغرفة ويقذف بنفسه وسطها مذهولا. صاحت خالتي ميلودة: "اقترب يا سي حمدوش لا تخف إنه يشبهك تماما، انظر إلى رأسه المدور، وشفتيه المموجتين، وأنفه المفلطح، إنه ابنك البكر، مبروك وألف مبروك".
اقترب حمدوش في سكينة ورهبة والعرق يتصبب من جسده، والهواجس تمزقه: "هل له ذيل؟! أذنان طويلتان؟!"، أسئلة لا تنتهي، كالحطب الملقى في فم اللهب. سمع صوتا خافتا وضعيفا ينسحب من جسد ملقى بجوار الصبي: "اقترب يا عزيزي لا تخف، إنه ابنك، البغال لا تلد الرجال!".
أحس بالدم يتدفق في جسمه، "البغال لا تلد الرجال"، "البغال لا ترد الرجال"، صداها يمزّق طبلي أذنيه، امتدت يداه إلى الصبي وهو يردّد: "من يصدق أن الرجال تلدها البغال؟".
مرت السنين وأصبح علال رجلا، أعطى كل وقته وجهده للأرض، كان يعمل مثل البغل من دون كلل أو ملل.